فى أواسط العمر كنت أذهب للمولات المكيفة فى صحبة الأولاد للتنزه والتسوق نجر عربة أو عربتان يتلذذ الصغار بالتسلق والجلوس داخلها ونتسلى بدفعها ونحن فى طمأنينة عليهم خوفا من توهانهم فى المولات الواسعة...ويتشعبط الأبناء فى أقسام الحلوى والشيكولاتة ويجمعون ماطالت أيديهم ويضعونه فى عرباتهم ونحن نغافلهم ونعيدها إلى الرفوف حتى إذا وصلنا الكاشير يتبقى من الشيكولاتة ماسمحنا وماسمحت الميزانية به...
الشيكولاتة كانت يوما فى طفولتنا الأولى عبارة حلقة فقوس أو ملفوفة توفى والمول المكيف كان سوق قريتنا الضبابى الذى تراه عن بعد شبورة ترابية كأنه ميدان معركة ترمح فيها الخيل والمحاربين كرا وفرا...وعربة التسوق كانت حمارا بخرجين وأتذكر عندما كنا نأتى من مدينتنا الصغيرة لزيارة البلد صيفا ويأتى يوم التلات ويجهز عمى حماره للذهاب للسوق لبيع خروف أو معزة ويصطفينى لمصاحبته فى يوم التسوق بعد إلحاح منى..
حبى للمعرفة وفضولى الشديد يجعلنى مهتم بالذهاب كما أننا نقطن الجبل حيث الكثير من المزارع وقليل من البيوت الريفية المبنية من الطوب النى أو اللبن كما يسمى ..فلامتاجر ولابيع ولاشراء غير بائع سريح يسمى البياض يأخذ البيض مقابل بكرة خيط أو بعض التوابل أو الملح أو الحلقان الفالصو أو كحل العيون...يركب عمى حماره ويحتضن خروفه..
وأجرى أنا خلفه...لا أتذكر إن كنت حافيا أو أنتعل شيئا فى قدمى ...نحن القادمون من الجبل نمر من خلال مزارع الدرة والقصب فى طريق ترابى يفزعنى فيه الخروج المفاجئ لكلب من القصب أو حقول الذرة أو فلاح كان يطمئن على سقيا زرعه أوربما عابر سبيل كان يقضى حاجته...وعندما ندخل إلى العمار فى مدخل "القلعة" وهى عاصمة الناحية الإدارية وحاضرتها يستقبلنا المشترون معظمهم من الجزارين ...يفاصلون وعمى يرفض ومابين نزول وركوب لعمى وللخروف من على الحمار...
حتى إذا كان السعر الذى طلبه عمى باعه وربما إستلم المبلغ إلا قليلا...والقليل هذا ثمن لنصف الربع من لحم الخروف...ويتجمع الناس حول الجزار وكل واحد يطلب قسما من الخروف حتى إذا كان تمام البيع لكل الخروف ذبحه الجزار وكان مكسبه هو "القُشة"وهى مصارين الخروف ورأسه وأرجله بالإضافة لفروته ...وترمى قرعة على أكوام اللحم فيحصل كل واحدة على نصيبه الذى دفع ثمنه تقسيم بركاوى وكأن الميزان لم يخترع بعد...
ويفرد المشترى منديله المحلاوى ويصر لحمه فيه ويضعه فى خرج حماره ويمضى لحال سبيله.. رائحة اللحم عند الفلاح تعنى الكثير من المعانى وكونك تشترى اللحم أيامها تعنى ملاءة مالية جيدة...وتعنى أنك عميل ممتاز وسمعتك كفيلة بأن تكون لك ضامنة للإقتراض من البنوك دون حد أقصى !
كل هذا يتم فى الطريق للسوق وأحيانا لايتم البيع إلا فى السوق...وعند دخول السوق تجد درابزينا كما كنا نسميه أو سور حديدى يحد مدخل السوق فينزل عمى عن الحمار فإن كان قد باع الخروف مبكرا ركبت مكان الخروف وإلا بقيت سائرا على قدمى حتى السوق فيربط عمى الحمار فى السور ويوصينى به خيرا وربما كان معه قليلا من البرسيم يضعه أمام الحمار ...
يدخل عمى السوق للتسوق يشترى مايحتاجه مما لاتنبت أرضه...بطيخ شمام ...أو مايحتاجه من فؤوس ومناجل وسلاسل حديدية لزوم تقييد الماشية وأظل أنا أرقب الناس عين هنا وعين على حمارى عين تراقب السقا وهو يسقى البائعين الفارشين بضاعتهم فى الأرض الترابية نظير قرن فلفل أو باذنجانة أو حفنة من الويكا أو قبضة من الملوخية يضعها فى خرج بجوار القرب فإذا سقى جزارا فله قطعة دهن.
أما لو كان بائعا للبذور فله حفنة فول أو درة أو قمح وأراقب الغلام الذى يبيع أزواجا من حمام...فيدخل فى فصال ينتهى بالبيع أو يفتح الله...أراقب المواشى وقد دخلت فى صحبة أناس وقد خرجت بصحبة آخرين...السوق ترابى وأنا جالس بجوار حمارى وقد تكشفت الشمس عن لهيبها فى الضحى..
وإنسحب الظل وبدأت فى السيطرة على الأماكن بأشعتها الملتهبة...وتمنيت لو أن للناس مثل حوافر الحمير حتى تقيهم حرارة القيالة وهم فى المعظم حفاة وبين حرارة الشمس وعفار التراب وهش الذباب أقضي وقتى...لايكسر صمتى سوى راكب حمار جديد يربط حماره بجوار حمارى طالبا منى مراعاته من اللصوص حتى يعود سريعا..
ومابين بائع برسيم وبائع أعواد ذرة...وبائع الويكا بالتورة وهى العدد أربعة حيث كان بيعها يتم بالعدد وليس الميزان ...البامية أو الويكا فى بلادنا تلك قرونها تفوق طول أصبعك وليست هذه البامية المنمنمة التى تباع فى أسواق بحرى فالعد فيها سهل ...
ويروح عمى ويجئ ويضع مايحمل فى الخرج ثم يذهب ثم فجأة تجد من ينادى: ياواحد...إلحقونى ياواحد...أنا أتقطيت (إتنشلت)ياخراب بيتك...ياولاد حرام عليكم دى فلوس ناس ...يابوى ...ياحزنك يامرارك...فلوسى راحت...وييمسك المسكين عمته وطاقيته...وينكشهما ويلوح بهما وهو يندب حظه ...ويناجى محفظته التى طارت من الصديرى بفعل فاعل يده تتلف فى حرير لمهارته وعايزة القطع لخسته وندالته. ..
حتى إذا إنتهى عمى من التسوق ...ذلك السوق الذى لاترى فيه صنف النساء إلا القواعد منهم يلفهم السواد فى بردات الصوف فى عز الصيف...فشر... تقول لى نقاب فالنقاب فيه بعض الإثارة !
نركب حمارنا والخرج ملآن وقد بعنا الخروف...وركبت خلف عمى وإمتلاء الخرج جعل الركوبة غير مريحة بالمرة فقد إنفرجت الزاوية بين رجلاى....من الآخر مفشوخ..دائما نخرج من الأسواق مفشوخين ...سواء دفعنا بالفيزا فى المولات...أو إتفشخنا ركوبا على حمار فى تلك الأسواق البدائية التاريخية التى أحن دوما إلى غبارها وحميرها وخرافها وبطيخها الأقرع !
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق