محمد قدري حلاوة يكتب : الأسطورة


فجر ليلة الثاني من أكتوبر عام ١٩٨٠..كانت ليلة من ليالي السهر حتى الصباح.. كنت ساهرا حينها في إنتظار مشاهدة اللقاء المرتقب بين أسطورة الملاكمة " محمد علي كلاي" و " لاري هولمز".. كانت مناسبة نادرة من تلك المناسبات التي ينقلها التلفزيون المصري عن طريق البث الحي المباشر بالقمر الصناعي وأن يبث برامجه أيضا في تلك الساعة المبكرة من الصباح حيث كان معتادا أن يفتتح برامجه في التاسعة أو العاشرة صباحا ويختتمها في منتصف الليل أو الواحدة صباحا على أقصى تقدير... فضلا عن أن البث التلفزيوني كان مقتصرا على قناتين فقط حينها " القناة الأولى" و " القناة الثانية".. قبل عصر الساتالايت وهجوم قنوات البث الفضائي..

كنت أحب هذا الرجل الأسطورة وأتتبع أخباره وتاريخه.. شاهدت تسجيلات للقائاته السابقة أمام عمالقة الملاكمة " فريزر" و " فورمان" و " سبينكس" على ذلك الإختراع الجديد العجيب "الفيديو ".. وكنت أغلق باب غرفتي وأقفز مثله وأحوم مسددا ضرباتي بقبضة يدي للهواء.. ومرت الساعات ثقيلة بطيئة إلى أن حان وقت المباراة في السادسة صباحا بتوقيت القاهرة..

بدأت المباراة وأنا أحملق في الشاشة وفي قمة تركيزي..  كان واضحا منذ الجولة الأولى أن هناك شيئا ما غير إعتياديا يحدث.. كان " لاري هولمز" صاحب الواحد والثلاثون عاما يبدو شابا فتيا ملقبا بالسفاح... أمام " محمد علي كلاي" الذي ناهز التسعة وثلاثون عاما والذي كان قد أعلن إعتزاله في عام ١٩٧٩ ثم عاد عن قراره لخوض هذا اللقاء.. وبدت حركات الأسطورة " الذي يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة" ثقيلة وبطيئة نوعا ما ونظراته المتحدية التي أعتاد تركيزها بحدة نحو خصمه أقل تحديا و حدة.. كان" هولمز " يكيل ضربات هائلة نحو " محمد علي"  الذي إكتفي بمحاولة صدها مع حماية وجهه بقبضتي يده.. في الإستراحة بين الجولات بدا أن " محمد علي " شاردا ساهما كأنه كان يجتر الذكريات ويستعيد تذكر تاريخه وأمجاده وإنتصاراته.. عادت إلى ذهنه ذكرى فوزه بالميدالية الذهبية في" أولمبياد روما" عام ١٩٦٠..وإحترافه الملاكمة في نفس العام ليفوز بلقب بطولة العالم لملاكمة المحترفين بعد فوزه على البطل الخارق حينها" سوني  ليستون"  عام ١٩٦٤..  ثم أعلن إسلامه في نفس العام وغير إسمه من " كاسيوس" إلى "محمد علي"..

دق جرس الحلبة معلنا جولة جديدة.. وبينما كان " هولمز" يكيل ضرباته القاتلة كان " محمد علي" يعود للماضي والذكرى حينما تم إستدعاؤه للجيش الأمريكي عام ١٩٦٦ لخوض الحرب في" فيتنام ".. ورفض محمد علي تنفيذ الأمر مطلقا قولته الشهيرة "لن أحاربهم فهم لم يلقبوني بالزنجي".. وتم سحب لقب بطولة العالم منه بسبب رفضه هذا.." محمد علي" الذي بدا مستسلما لضربات" هولمز" لم يستسلم حينها ولكنه أصر على العودة عام ١٩٧٠ وخاض مباراة تاريخية مع القاطرة البشرية " جو فريزر" وأستطاع هزيمته في مباراة أطلق عليها" مباراة القرن ".. وفي عام" ١٩٧٤ أستعاد لقب بطولة العالم بعد أن تمكن من إلحاق الهزيمة " بفورمان "..

دق جرس الحلبة معلنا نهاية الجولة العاشرة وتوجه" محمد علي " إلى ركنه.. وحدث الجدل بين معاونيه المدرب “ أنجليو دندي " ومساعده " بونديني براون".. وبعد نقاش لم يدم طويلا رأي معاونوه إنهاء تلك المأساة فورا.. وبالفعل أنهى الحكم اللقاء في الجولة العاشرة في مباراة كان من المفترض أن تستمر خمسة عشر جولة..وهزم الأسطورة وبدا ساهما شاردا كالأسد العجوز الجريح وهو يطرد من عرينه.. وصرح البطل الجريح يومها بعد المباراة قائلا " بالنظر إلى كثرة اللكمات التي كنت أتلقاها.. أنا سعيد بأنهم أنهوا اللقاء".. ونمت صباح هذا اليوم حزينا يملؤني الأسف على نهاية مسيرة بطلي الأسطوري.. 

لعب " محمد علي" مباراة واحدة بعدها في ديسمبر عام ١٩٨١ ضد " تريفور بريك" وهزم فيها أيضا.. بعدها بثلاثة أعوام في عام ١٩٨٤ أصيب محمد علي بمرض الشلل الرعاش" باركنسون ".

وبدت المناسبات القليلة التي رأيت فيها البطل مثيرة للشفقة والتعاطف.. إلا أنه ظل دوما محتفظا بإبتسامته وكلماته الشجاعة ومواقفه الإنسانية من رفض ومعارضة كل الحروب الأمريكية الخرقاء في العراق وأفغانستان وبنما وغيرها.. وفي عام ٢٠١٢ تم إختياره لإشعال الشعلة الأوليمبية في "أوليمبياد أتلانتا".. وتقدم الرجل ذو السبعين عاما حاملا الشعلة بيده المرتعدة ليضيئ الشعلة الأوليمبية وسط هتاف وحب وتعاطف ودموع الملايين حول كافة أصقاع الأرض.. 

في الثالث من يونيو عام ٢٠١٤ مات البطل الأسطوري.. الذي لم يكن بطلا خارقا في لعبة الملاكمة فقط.. لكنه كان أيضا رمزا إنسانيا رفض الظلم والتفرقة الدينية والعنصرية.. وداعية سلام رفض دوما الحرب.. وإنتابني يومها حزنا أكبر بكثير من تلك الأحزان التي نالتني يوم هزيمته من " هولمز" .. وتذكرت كلماته " فى داخل الحلبة كما في خارجها.. لاعيب أن تسقط أرضا.. ولكن العيب أن تبقى على الأرض".. حقا رحم الله الرجل.. فكلما سقط أرضا نهض سريعا محلقا كالعنقاء الناهضة العائدة للحياة من وسط الرماد..

تعليقات