الحديث الآن عن أي انتصارات لهذا الطرف أو ذاك، في الحرب الروسية الأوكرانية وبعد قيام روسيا بغزو أوكرانيا، أمر سابق لأوانه، وإلا سنقع في نفس الأخطاء التي تم ارتكابها طوال أكثر من سبعين عاما من الاحتفالات والرقص والطبل والزمر لانتصارات الاتحاد السوفيتي السابق على أمريكا والإمبريالية والرأسمالية العالميةـ وتمجيد أطراف أخرى كنا ننسب أنفسنا إليها أو نحاول أن نجر أمجادها لتصبح جزءا من أمجادنا التي لم نحققها أبدا...
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يحقق إلى الآن أي شيء من أهدافه التي أعلنها، سواء كانت أهداف تخص أوكرانيا أو تخص حلف الناتو والولايات المتحدة. كل ما هنالك أن القوات الروسية تكاد تسيطر بدرجات كبيرة على كل شرق أوكرانيا وبعض المدن المهمة مثل كراماتورسك (في الشرق) وخاركوف (في الشمال الشرقي) وأوديسا (في الجنوب) وبيرديانسك (في الجنوب الشرقي)، ومدن أخرى يجري التوجه نحوها بحذر شديد.
معركة روسيا حاليا على الأرض مع أوكرانيا حصرا. ومن الصعب احتلال العاصمة كييف بقوات نظامية كبيرة، لكن من الممكن التحكم فيها لاحقا عبر أدوات وطرق معينة بحيث لا تسقط عسكريا، لأن سقوط العاصمة واحتلالها بقوات نظامية له معان كثيرة وخطيرة. ولكن عندما يتم التحكم في كييف، والاستيلاء على مفاعل تشيرنوبل ومراكز الابحاث والمنشآت العسكرية الحيوية، ستكون روسيا قد وصلت إلى أولى أهدافها.
لا أحد يعرف، هل ستكتفي موسكو بالاستيلاء على كل شرق أوكرانيا، والتحكم في كييف، أم أن لديها أهداف أخرى تتعلق بتعطيل كل أوكرانيا والتحكم في حدودها الغربية. لكن دخول الروس إلى غرب أوكرانيا الذي يعادي روسيا عداء تاريخيا ووجوديا، سيكون بمثابة مجزرة حقيقية. غير أن هذه الخطوة ليست مستبعدة في ظل جرأة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وعدم إحساسه بالخطر.
في كل الاحوال، سواء استولت روسيا على نصف أوكرانيا أو كل أوكرانيا، فإنها ستقف عمليا على حدود أوروبا، حيث أعلن الناتو وواشنطن أنهما لن يتدخلا عسكريا في أوكرانيا ولن يحاربا روسيا وجها لوجه على الأراضي الأوكرانية، ولكن سيتم حشد كل القوى والوسائل الممكنة عسكريا ورقميا وافتراضيا وعلميا لمواجهة روسيا في حال قيامها ولو بخطوة واحدة عبر حدود ونفوذ حلف الناتو.
لا أحد يعرف ماذا ستفعل روسيا عندما تقف وجها لوجه عبر خطوط تماس مع قوات الناتو ودول أوروبا الشرقية. لكن كل شيء وكل خطوة وكل حركة ستكون بحساب دقيق للغاية. هنا ستبدأ جولة أخرى من المواجهة التي لا يعرف أحد إلى أين ستقود المعسكرين، لأن مشكلة أوكرانيا ستكون قد انتهت جزئيا، وأصبحت في يد الروس. وهناك بطبيعة الحال خطط مهمة وخطيرة لدى موسكو. وستكون بمثابة بداية العمل على تنفيذ أهداف الرئيس الروسي بوتين في أوكرانيا فقط.
الرئيس بوتين بدأ العمليات العسكرية بإرادته، ولكن من الصعب أن ينهيها بإرادته مهما حقق أهدافه في أوكرانيا، ومهما نجح في إعادة كييف إلى الحظيرة الروسية، ومهما أقام من انتخابات واستفتاءات لتشكيل سلطة موالية لروسيا. وذلك لسبب بسيط للغاية، يتمحور حول أن موسكو لم تحقق أي هدف على الإطلاق في علاقتها بالناتو وواشنطن والاتحاد الأوروبي حتى الآن. بل سيواصل الطرف الغربي بمكوناته فرض العقوبات وجر روسيا بهدوء وخبث ومكر إلى حالة من اللاسلم واللاحرب، حالة وسطية فيها عض أصابع وفرض إرادات على أرضية انعدام ثقة كامل بين الطرفين.
في الحقيقة، لقد اعترف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بانفصال دونيتسك ولوجانسك يوم 21 فبراير 2022. وهو نفس اليوم من عام 2014 الذي اجتمع فيه وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبولندا مع الرئيس فيكتور يانوكوفيتش وأقنعوه بالتوقيع على وثائق معينة، وبعد انتهاء الاجتماع يوم 21 فبراير 2014، تم خلعه، ثم فراره إلى روسيا، الامر الذي مرغ رأس موسكو في التراب، خاصة وأنها كانت قد منحت يانوكوفيتش قبلها بعدة أيام مبلغ 15 مليار دولار ليواجه بها معارضيه ويتغلب عليهم. ولكنه سقط وهرب إلى روسيا. باعتراف بوتين بالجمهوريتين الجديدتين يكون قد رد الصفعة عمليا لكييف ولأوروبا والولايات المتحدة. ولكن هناك أهداف أبعد من ذلك بكثير للقيادة الروسية. وهي بالفعل غامرت وقامرت بكل شيء وظهرها الآن للحائط: أي أنها مجبرة على تنفيذ الجزء الأكبر من هذه الأهداف، سواء في أوكرانيا، أو في علاقتها بالناتو وواشنطن والاتحاد الأوروبي.
روسيا في الحقيقة ردت على كييف والغرب أيضا بضم القرم وسيفاستوبل في مارس 2014، وبعزل دونيتسك ولوجانسك وجعلهما شوكتين في مؤخرة كييف. والآن بدأت موسكو في تنفيذ السيناريو الأوسع والأكثر وجعا لها ولجميع الأطراف الأخرى.
لا هزائم ولا انتصارات إلى الآن والاحتفال بأي شيء أمر سابق لأوانه، بل يُحَمِّل هذا الطرف أو ذاك مسؤوليات وطاقة إضافية ويطالبه بأشياء قد لا تتحقق، لأنه في نهاية المطاف لا يمكن مقارنة قوة ونفوذ روسيا، مهما امتلكت من أسلحة، بقوة ونفوذ الناتو وواشنطن وبروكسل عسكريا وتقنيا واقتصاديا. ومن الصعب تصور أن هناك مجنونا ما في أي من الطرفين ليغامر باستخدام أسلحة نووية، أو حتى أسلحة تقليدية شديد التدمير، لأن ذلك في نهاية المطاف سيفتح الطريق لاستخدام أسلحة أكثر خطورة وأشد فتكا.
من حق الناس أن تحتفل بالطرف الذي يروق لها أو تشجعه. ولكن الاحتفال لا يعني الانتصار، والسخرية لا تعني الانتصار، وتفريغ طاقة الكراهية أو الغل أو الاحتقار لا تعني الانتصار. كل ما هناك أن هناك قطاعات من الناس تعرضت لفشل أفكارها ولهزائم ذهنية، بشر فشلوا في تحقيق أحلامهم، وبشر يشعرون دوما بالدونية وقلة الحيلة وقلة القيمة، والآن يجدون حربا مرعبة تستخدم فيها أسلحة فتاكة، ما يرد إليهم اعتبارهم ويعيد إليهم أفكارهم القديمة، ويشبع لديهم غريزة الانتقام والثأر والتشفي... كل ذلك طبيعي وموجود في كل المجتمعات، وبالذات تلك التي تعاني من مشاكل ذهنية وعقلية ووجدانية، وتسيطر عليها أمراض مرعبة تتسم بالدونية والعدمية، وتلجأ من شدة مرضها وضعفها وتهالكها وانتهازيتها وهشاشتها إلى المعايير المزدوجة والكيل بأكثر من مكيال على أرضية من الاستهتار والاستخفاف والتشفي في نفسها وفي بعضها وفي الآخرين، وتحاول أن تنسب لنفسها نجاحات أطراف أخرى وأمجاد أطراف ثالثة ورابعة، بل وتنسب نفسها إلى قوى لا علاقة لها بها من بعيد أو قريب...
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق