محمد مصطفى موسى يكتب : تلك هي الحرب


كانت ليلة باردة، وكنت بأتمشى جنب سور معسكر اللاجئين الكوسوفيين، الذي أقامه الشيخ زايد، في مدينة كوكس، في ألبانيا، على بعد عشرة كيلومترات، من حدود صربيا، أثناء الحرب.

لقيتهم بيشاوروا لي.. رحت لهم، 17 لاجئة كوسوفية، أعمارهن ما بين سبع سنوات لسبعين سنة.. وصلن من قراهن على جرارات زراعية.. كونهم فلاحين.

الألبان عموما لا يتقنون الإنجليزية ولا الفرنسية التي لا أتقنها.. قلة قليلة منهم يتحدثون الألمانية والإيطالية، لكن بالإشارة فهمت أنهن جائعات.

جريت إلى خيمة كانت مخصصة للهلال الأحمر.. وجدت موظفا مصريا أمامه صينية عليها رز ولحم فقلت له وأنا ألهث: فيه لاجئات جنب السور وصلن قبل قليل وهن جائعات.. 

بدون تفكير أعطاني الصينية وفتح ثلاجة وأعطاني خبزا وجبنا بكمية وفيرة..

جريت عائدا لهن.. منحتهن الطعام وتوجهت إلى خيمة مهدي خوجه وهو ألباني درس الشريعة في جامعة بغداد، وكان يتحدث العربية بطلاقة فجاء معي ليترجم لي عنهن..

ثمة قصة صحفية دائما.

قلن إن الصرب قتلوا كل الذكور الذين كانوا معهن لما وقعن في أيادي الجند أثناء محاولتهن الفرار.

تلك هي الحرب

استوقفتني لما كنت أتسوق في مدينة كوكس: أعربي أنت؟

-نعم.

هل لي أن أطلب مساعدتك؟

-على الرحب والسعة ما استطعت إلى ذلك سبيلا.

هذا زوجي.. طبيب، وهو كما ترى حافي القدمين، نحن لاجئان لم نجد مكانا في المعسكر الألماني ولا الإيطالي ولا الإماراتي.. نقيم بشكل مؤقت في معسكر الأمم المتحدة وهو ليس معدا لاستقبال النازحين إلا لوقت قصير.. وليس لإقامة طويلة.

هل يمكنني أن أطلب إليك أن تشتري لزوجي حذاء؟

توجهت لمتجر أحذية.. سألته أن يختار فشرع يسأل عن الأسعار لينتقي الأرخص.

كانت شفتاه ترتعدان من فرط الخجل.

اخترت له حذاء لأخفف عنه.. كانت زوجته تتحدث فيما هو يطرق صامتا لا يرفع عينه في عيني.

سلمت عليه بحميمية صديق وقلت كلاما متلعثما عن الأخوة الإنسانية والتراحم فجميعنا بشر وقد أحتاج يوما لك وقريبا تعود إلى وطنك.. إلى آخره ومضيت عائدا إلى المخيم وفي قلبي "ثقل الجبال".. جبال من الحزن.

تلك هي الحرب.

في خيمتي كان يقيم طفلان كوسوفيان: دافير ودشنور.

تعلقا بي لشدة حبي لهما.. فطلبا إلى ذويهما البقاء معي.

كانا وسيمين وكان دافير يرتل القرآن بصوت جميل رغم أنه لا يعرف العربية.

في ليالي الشتاء الباردة، كنت أضم سريرين ليكونا على مقربة مني، فإذا سقط عنهما الغطاء أرده، وإذا أحسا بردا فلا بأس من أن أضمهما إلى صدري.

وكان دافير وهو الأقرب إلى قلبي يصاب بالكوابيس ويرتعش جزعا طوال الليلة وكنت كثيرا ما أوقظه فأهديء من روعه وأستفسر منه عما رأي فيما كان نائما.. فيروي لي مشاهد القتل والغارات الجوية التي شاخت طفولته إثرها..

كنت أحضنه حتى ينام ثم أجهش في البكاء.. لساعات.

تلك هي الحرب.

تعليقات