د. أشرف الصباغ يكتب : أهداف روسيا في أوكرانيا ؟


أخيرا، قام وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بتفسير تصريحات الكرملين حول أهداف موسكو من غزو أوكرانيا، حيث قال: "قرر الرئيس بوتين إجراء عملية عسكرية خاصة لتجريد أوكرانيا من السلاح واجتثاث النازية منها، حتى يتمكن الأوكرانيون أنفسهم، بعد تحريرهم من هذا الاضطهاد، من تقرير مستقبلهم بحرية".

الصباعهذا الكلام معناه، ليس فقط تجريد أوكرانيا من السلاح النووي أو كل الأسلحة، وحرمانها تماما من أي تقنيات عسكرية نووية تجعلها قادرة على صنع أسلحة نووية، بل وأيضا وضع أوكرانيا في منطقة الحياد. أي إكسابها صفة "دولة محايدة". الامر الثاني والمهم، هو إيصال مجموعات تراها موسكو "جيدة وصالحة" إلى السلطة عن طريق انتخابات ستشرف عليها موسكو في الواقع، لكن سيتم إجراؤها شكليا بحضور منظمات ومراقبين وهيئات. الامر الثالث، ستجري صياغة دستور خاص بدولة محايدة يتضمن بنودا تتعلق بصفات خاصة لأقاليم معينة. 

أعتقد أن هذه مجرد أهداف أولية ومهمة، بتحقيقها سيتحقق وجود منطقة عازلة بين حدود روسيا وحدود حلف الناتو. أي أن روسيا ستكون قد حققت واحد من أهم مبادئها التاريخية، ألا وهو وجود مناطق عازلة بينها وبين ليس فقط أوروبا، وإنما بينها وبين جيرانها الكبار. وهذا الأمر موجود منذ روسيا القيصرية التي كانت دوما حريصة على وجود حدائق خلفية لها في شرق أوروبا وفي آسيا الوسطى وفي القوقاز وما وراء القوقاز. وكذلك روسيا السوفيتية التي أحاطت نفسها بجمهوريات سوفيتية ودول "إشتراكية" في حلف وارسو. والآن تسير روسيا على نفس هذا المسار بتأمين دول صديقة أو إرغامها على الصداقة (كمناطق عازلة) في آسيا الوسطى وفي القوقاز وما وراء القوقاز وفي الشطر الأوروبي الشرقي. 

ستحل روسيا الكثير من مشاكلها مع أوكرانيا، وقد يجلس بوتين مع زيلينسكي، مع العلم بأن الغرب لن يكون بعيدا عن مفاوضاتهما. وهذا يعني أن روسيا لن تحل جميع المشاكل، وإنما على الأقل ستحاول ضمان أكبر قدر من حيادية أوكرانيا وتجريدها من كل شيء وصياغة دستور يضمن عدم منحها أي صلاحيات تمكنها من المناورة. بعد ذلك ستتفرغ لهندسة الأمن الأوروبي، أو بالأحرى لهندسة أمنها ضمن صيغة أمنية أوروبية، أو أوروأطلسية، حسب ما ستسمح به الظروف وموازين القوى وأدوات الردع. وفي الحقيقة، فالغرب أيضا لن يخسر كثيرا في حال حققت روسيا أهدافها في أوكرانيا، لأن السياسية الكبرى هي عملية متشابكة ومعقدة لها شروطها ومعاييرها وقوانينها و"تحولاتها". وهي أيضا جولات من الربح والخسارة. لكن المهم أن تستمر الدول ولا تتوقف أو تعتبر نفسها منتصرة بالضربة القاضية، لأنه لا يوجد ضربات قاضية في السياسة الكبرى. والمؤمنون بالضربة القاضية والانتقام المبين في السياسة الكبرى هم الذين يعيشون في الماضي، والذين يربطون أنفسهم بالتصورات البدائية الهشة للشرف والكرامة، وأولئك الذين يشغلون أنفسهم بالأمور الفرعية والهامشية ويخلطون كل شيء بكل شيء مع عدم القدرة على تحديد الأولويات.

الغرب لن يخسر، لأن أوكرانيا ستكون أيضا منطقة عازلة بالنسبة لحدوده مع روسيا. والباقي يتوقف على عمليات الشد والجذب والإغراء الاقتصادي والمالي والاجتماعي ومستوى المعيشة ومنظومات القيم الديمقراطية والقانونية. المهم هنا، أن الغرب لم يفقد أي من أعضاء الاتحاد الأوروبي أو الناتو. بمعنى أن أوكرانيا كانت "هدفا" لصراع ما، وتم تحييدها، وسيتولى الزمن معالجة الأمور، سواء لصالح هذا الطراف أو ذاك. المهم أن تستفيد أوكرانيا من وضعها الجديد وتعمل على تنمية نفسها والاندماج في هذه المنظومة أو تلك، وليس الدخول في أحلاف. والمقصود هو تبني منظومة قيم كاملة تشكل خريطة تطور الدولة ككل.

لقد قررت روسيا ببساطة، ورغم اقتصادها المتواضع وقدراتها المالية والتقنية التي ليست في أحسن حالاتها، أن تقلد أمريكا وتدوس على القانون الدولي. وهي في هذا الصدد اعتمدت على ما لديها من ترسانات سلاح، قررت أن تقوم بإجراء يتعلق بوجودها، وبالمبادئ التي تكونت عليها روسيا في جميع مراحلها القيصرية والسوفيتية والفيدرالية. لكنها لم تحقق أي شيء ملموس وواضح. كل ما في الأمر أنها ثبتت حقها في إمكانية تكرار هذا الإجراء عندما يتم خنقها أو عندما تجري محاولات لحصارها والضغط عليها حتى الخطوط الحمراء.

ما حدث في أوكرانيا لن يوقف الصراع بين روسيا والغرب. فالصراع في أوله الآن على مسار تشكيل المنظومة العالمية الجديدة التي تناضل موسكو لإيجاد موطئ قدم فيها لنفسها إلى جوار الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي واليابان. وللعلم، فالمنظومة العالمية الجديدة ستكون رأسمالية وإمبريالية، وستكون أيضا نيوليبرالية، أو على الأقل ستكون لها ملامح من كل ذلك إضافة إلى الوجه الرقمي والتقني ونسق العلاقات المرتبط بذلك. قد أكون مخطئا أو مبالغا. لكن حتى لحظة كتابة هذا الكلام، لا أرى سوى ذلك ارتكازا إلى وانطلاقا من الواقع ومما هو موجود على الأرض. أما أحلامي وطموحاتي وعقيدتي وما أريده وأرغب به، فمن الصعب أن أصورها وأطرحها على اعتبار أنها الواقع، لكي لا أخدع نفسي أو أخدع الآخرين وأضللهم. وستستمر الصراعات والنضالات من أجل مجتمعات أكثر عدلا، وعلاقات دولية أكثر توازنا وديمقراطية.

تبقى مسألة تأثير العقوبات على روسيا. وتبقى الكارثة الأكبر، ألا وهي انعدام الثقة بينها وبين الغرب، والذي تَعَمَّق بسبب موضوع القرم، ثم شرق أوكرانيا، ثم غزو أوكرانيا. كما تبقى كارثة أكبر وأعمق، وهي حجم الكراهية (المعلنة أو المضمرة) لروسيا وللروس من جانب قطاعات واسعة في أوكرانيا، ومن غرب أوكرانيا، ومن الدول السلافية الأخرى، ومن دول شرق أوروبا، وخاصة بولندا والتشيك على سبيل المثال لا الحصر. إن غزو أوكرانيا عَمَّق ووَسَّع من مساحات الكراهية المعلنة والمضمرة تجاه الروس في أوروبا الشرقية، بصرف النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا مع ذلك، وبصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع ما يُحْكَى عن العلاقات "الرسمية" والدفء والأخوة والصداقة وكل تلك العبارات والكليشيهات بين روسيا وهذه الدول. 

إن الدول الغربية لديها أنساقها الفكرية والمعرفية، ومنظوماتها القانونية والقيمية. وهي في الحقيقة قطعت شوطا كبيرا في اتجاه البراجماتية والتركيز على الأولويات والمصالح القومية، بعيدا عن الثأر والتعطش لإراقة الدماء، وبعيدا عن الارتكاز إلى الماضي والانتقام الأهوج لذاته وبحد ذاته. وبعيدا أيضا عن التصورات البدائية للشرف والكرامة والصورة الناصعة.

تعليقات