د. أيمن منصور ندا يكتب : إنجازات الرئيس السيسي وإخفاقاته (1 - 5) "مصر هبة السيسي"!


رؤية موضوعية لثماني سنوات في حكم مصر

في أولوية التقييم المستمر

خدعونا كثيراً بالقول: "إن المعاصرة حجاب" تمنع رؤية الحقيقة كاملة.. وخدعونا أيضاً بالقول " إنه من الصعب تقييم أشياء متحركة"، إذ لابدَّ من تجميد اللحظة حتى يمكن الحكم على مكوناتها وأبعادها.. غير أن الانتظار حتى تأتي اللحظة المرغوبة قد يضيع علينا كثيراً من الفرص، ويؤدي إلى تفاقم كثير من المشكلات.. نحتاج إلى الرؤية الموضوعية  ، وإلى التقييم المجرد لفترات الحكم حتى نصل إلى رأي صحيح بشأنها.. هل نستمر أم نتوقف؟ هل نسير في الاتجاه الصحيح ومن ثم يجب الاستمرار؟ أم أن هناك بعض المشكلات التي يجب التوقف عندها، وتعديل المسار في ضوئها؟  لا يجب أن نقِّيم الأمور "بعد خراب مالطة"، ولا أن نصدر أحكاماً تاريخية عليها.. عملية التصويب والتعديل يجب أن تكون آنية ويومية ومستمرة.. ولا عيب في التراجع عن بعض السياسات، ولا عيب في الاعتراف ببعض الأخطاء.. 

النظرة الموضوعية لأداء الرئيس السيسي خلال الثماني سنوات تحتم الاعتراف بحجم الإنجاز الذي تحقق في بعض الميادين.. كما يحتم أيضاً الاعتراف بالقصور والإخفاق في ميادين أخرى.. إن لم يقم الرئيس السيسي إلا بإعلان 3 يوليو، ومنع اختطاف الدولة المصرية لكفاه.. وضع روحه على كفيه وقدمها خالصة لمصر.. غير أن تولي مسئولية الحكم شيء آخر.. جرت في النهر مياه كثيرة غيرت من طبيعة التقييم والتقدير..  بعض المحللين أطلق على فترة الرئيس عبد الناصر "فترة الآمال العظيمة والانكسارات الكبيرة".. وعلى فترة الرئيس مبارك : "فترة الفرص الضائعة".. فترة الرئيس السيسي هي أقرب إلى فترة الرئيس عبد الناصر.. آمال كبيرة، وانجازات عظيمة، وإخفاقات كثيرة، وإحباطات عديدة..   تمنيتُ أن لم يترشح الرئيس السيسي لحكم مصر ليظل نقطة مضيئة لا يدانيها شيء في التاريخ المصري المعاصر.. سنوات حكم الرئيس السيسي لم تكن في صالحه من حيث الصورة التاريخية: تحول من "بطل قومي" أجمعت عليه الأمة على اختلاف أطيافها وفئاتها، إلى مجرد رئيس يصيب ويخطئ ويتفرق حوله الناس شيعاً.. نزل من علياء الأسطورة وسحرها، إلى دروب السياسة الدنيئة ودهاليزها القميئة.

مشكلة مصر (الرسمية) أنها لا تعترف بأن هناك أوجه قصور في أداء رؤسائها وحكامها، ولا تسمح بالإشارة إليها... انتقاد من هم في السلطة حتى ولو كان "رئيس مدينة" غير مسموح.. في أيام سجني، كان نبطشي الغرفة (أقدم المساجين أو المحتجزين) يمنع مناقشة قرارته حفاظاً على "برستيجه" أمام بقية المساجين.. رئيس جامعة القاهرة أطاح بي من عملي وأوقفني عن العمل خمسة عشر شهراً بسبب اختلافي معه حول فساده.. و"كرم جبر" منع ظهوري في أية وسيلة إعلامية مصرية بسبب انتقادي لأدائه، فما بالكم (مع حفظ الألقاب والمقامات) بأعلى سلطة في البلاد! ...."إننا لا نحتاج إلى شرب ماء المحيط  لكي نعرف أنه مالح.. قطرات قليلة تكفي"، والغباء أن "تكرر التجربة بكافة تفاصيلها وإجراءاتها ثم تتوقع نتيجة مختلفة في كل مرة".. عبد الناصر انفرد بالرأي ولم يسمح بالرأي المغاير، وكانت نكسته كبيرة.. والسادات فعلها ككبير للعائلة وتم اغتياله، ومبارك أدمنها وحصل على دكتوراه في العند وتم خلعه.. ومرسى تمت الإطاحة به وبجماعته بعد عام واحد.. فماذا ننتظر؟ 

"مصر هبة السيسي"!

مسميات عديدة أطلقتها وسائل الإعلام المصرية أو سارعت إلى تبنيها وترسيخها بشأن النظام السياسي الحالي، كان لها تأثيرها على طريقة تعاملها معه، وعلى توقعات الناس منه.. مصطلحات مثل "الرئيس الضرورة"، و"القائد المُستدعى"، و"الزعيم المُرتجى" والمطلوب بناء على رغبة الجماهير.. إلى الحد الذي أشار فيه أحد الكتاب إلى أن "مصر هبة السيسي"! ، وإلى قول أحد الشيوخ الأجلاء "كما أرسل الله موسى وهارون إلى فرعون وقومه، فقد أرسل رجلين إلى جماعة الإخوان المسلمين هما السيسي ومحمد إبراهيم"..

هذه المصطلحات  وغيرها ("الاستدعاء"، و"المنقذ"، و"المخلص") جعلت العلاقة أحادية الجانب، وفرضت شروط الوظيفة عليه؛ فالمُستدعى لا يتم سؤاله أو نقاشه إن فشل، والمنقذ لا يتم اتهامه بالتقصير إن حدث، ولا تتم مساءلته إن خابت مساعيه، فكلّها جهود تطوعية وتفضلية، ويكون مقابلها السمع والطاعة والامتنان وأن "تبوس إيدك وش وضهر".... هذا الإطار السماوي/ المقدس للنظام هو الذي فرض استخدام مصطلحات من قبيل: أهل الشر" بديلاً عن "المعارضة" على سبيل المثال، في مقابل أهل الخير من الموالين. وهذا الإطار هو الذي جعل وسائل الإعلام تركز على سمات لا يتم ذكرها في أية دولة أخرى عن الرئيس: "الرئيس لا ينام".. "الرئيس بان عليه العجز في الثماني سنوات السابقة بسبب المسئولية الشديدة"، و"الرئيس هيعمل إيه للشعب دة؟"، وأخيراً: "لا تلوموا الرئيس على سوء حالتكم، لوموا أنفسكم، أنتم السبب"!.

هذا الخطاب الرئاسي السائد وإن كان الهدف منه ترسيخ مكانة الرئيس وتدعيم شرعيته، فقد أدى إلى العكس منه تماماً.. إذ أدى في البداية إلى "زيادة التوقعات" عن قدرة الرئيس على حل أية مشكلة، وإلى ارتفاع "سقف الطموح" الشخصي (قبل العام) من الرئيس. وترتب على ذلك أن كل شخص يواجه مشكلة يتمنى أن يصل صوته إلى الرئيس، فهو وحده القادر على حلها، وكأنه استنساخ لصرخة المرأة العمورية: وامعتصماه.. وارئيساه.. واسيساه... واعتقد البعض أنه إذا كان الله قد منح الرئيس بعض ملكات "سليمان" وقدراته، فقد وهبه أيضاً "عصا موسى" ومعجزاته.. هذه المبالغات والشطحات أدت إلى "ثورة الإحباطات والانتكاسات"، وإلى تآكل شرعية الرئيس في بعض الفترات مقارنة ببدايات حكمه، وهو ما يعرفه الرئيس ويقر به، ويعلنه في كثير من المناسبات.

تجديد الخطاب الرئاسي

نتحدث كثيراً عن "تجديد الخطاب الديني"، وتجديد "الخطاب الإعلامي"، غير أنني أرى أن الأولوية لتجديد "الخطاب الرئاسي"  Presidential Rhetoric.. تغيير صورة الرئيس ووظيفته، وتغيير طريقة كلامه مع الناس وإليهم أصبح مطلباً عاجلاً إن أردنا الإصلاح الحقيقي.. نريده رئيساً يتحاور مع الشعب ، ولا نريده زعيماً يتحدث من علٍ إلى مريديه.. نريد مسئولاً يمكن مساءلته ومحاسبته، وليس نبياً معصوماً من الخطأ، ولا يمكن الاقتراب منه أو المساس به أو مراجعته.. نريده رئيساً يتحدث إلينا وجهاً لوجه وهو ينظر إلي عيوننا ، وليس رئيساً يتحدث إلينا من خلاف، أومن وراء حجاب.. الرئيس السيسي شئنا أم أبينا مرحلة انتقالية في عمر مصر تنتهي في 2034، ونتمنى ألا نفاجئ حينها بأن من يستلمون منه المسئولية يستلمونها بنفس أفكارها القديمة، وبنفس الأفكار المقدسة عمن يحكمونها.. نريدها فترة انتقالية أخيرة (بحق وحقيق) للوصول إلى دولة ديمقراطية حقيقية.. تعبنا من الفترات الانتقالية العبثية والخادعة والمضيعة للوقت.

أحب الرئيس السيسي، وأحب مصر، غير أن حبي لمصر أكبر وأعظم.. فكرة "الرئيس المُلهم" أو "الزعيم كامل الأوصاف" غير موجودة واقعياً وتاريخياً. وفي يقيني أن الرئيس السيسي نفسه يعلم ذلك.. يعلم أنه يصيب ويخطئ، ويعرف أنه حالفه التوفيق في أمور كثيرة،  وأنه أخفق في المقابل في أمور عديدة.. لا عصمة  لرئيس، ولا كمال لملك، ولا قداسة لسياسي.. كلنا عباد الله، وعلى بابه، وإن اختلف حظنا من العلم أو السلطة أو القوة.

في مقال شهير للأستاذ هيكل عنوانه "عبد الناصر ليس أسطورة" نشره بمناسبة ذكرى الأربعين لوفاته (نوفمبر 1970)  أشار إلي أن عبد الناصر "كان إنساناً عظيماً لا أقل ولا أكثر".... " لا يسعده أن يجد نفسه تمثالاً شاهقاً من الحجر، وإنما يسعده أن يظل مثالاً نابضاً للإنسان .. لحم ودم.. إرادة وأمل.. عقل وعاطفة .... قرارات فيها الصواب وفيها الخطأ.. وأحسب أن جمال عبد الناصر (والكلام لهيكل) كان من القلائل الكبار في عالمنا وعصرنا الذين واتتهم الشجاعة لكي يقفوا أمام الملايين يتحدثون بأمانة ورجولة عن التجربة والخطأ"... والرئيس السيسي مثل الرئيس عبد الناصر "إنسان عظيم لا أقل ولا أكثر"، لا يجب وصفه بما ليس فيه، ولا وضعه في إطار ليس في صالحه ولا في صالحنا..

الأنبياء والرسل كانوا معصومين في الأمور الدينية، ولم يدعوا عصمة في الأمور الدنيوية : "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، التفرقة دائمة كانت موجودة بين أمور الحكم وأمور الدين: "ما لله لله.. وما لقيصر لقيصر".. المشكلة في خلط الأمور ببعضها، وفي التوحد بين الدولة وزعمائها.. مقولة الملك لويس الرابع عشر "أنا الدولة..  والدولة أنا" لم تعد صالحة في سنواتنا هذه .. "كلٌّ يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا المقام".. ليس في السياسة مقامات وأضرحة يتم التوسل إليها أو الخشوع عندها.. لدينا تقييم موقف يحتمل الصواب والخطأ، ويحتمل التوفيق وعدم التوفيق.. ولا عصمة لرئيس أو لمسئول في عالم السياسة.

في المقالات الأربعة التالية (إن شاء الله) نستعرض أهم إنجازات الرئيس السيسي خلال سنوات حكمه الثمانية، نعقبها بتحليل لأهم أوجه الإخفاق التي تمت في عهده، ثم نقدم "خارطة طريق" لما يجب أن يكون عليه الحال في السنوات القادمة.. ونختمها بتقييم كلي للموقف العام..  وهذه المقالات الخمسة تقدم رؤية شخصية تحتمل الصواب والخطأ، وقابلة للتعديل والتطوير.. المهم أن يكون النقاش موضوعياً بعيداً عن اتهامات التخوين والأخونة والعمالة، وأن تكون مصر هي الهدف والغاية والمبتغى.. والله الموفق والمستعان.

تعليقات


  1. ماهو المطلوب كى يتحقق حلم ذهابه وانتخاب رئيس غيره وكل الأجهزه اعلاميه وغيرها تمنع ظهور صوت مغاير او رجل معارض او رأى مختلف مع الرئيس

    ردحذف

إرسال تعليق

أترك تعليق