رئيس أوكرانيا الممثل الكوميدي السابق ، كان يبدو شجاعا ومفوها في بداية هذه الأزمة ، وكنت أتعاطف معه ، ولكنني لاحظت أنه بمرور الأيام يواصل " عروضه" يوميا تقريبا ، ويكرر كلمات ومعاني بعينها ، ويطالب مطالبات مستحيلة قد تؤدي إلي حرب كونية جديدة .. وصدمتني كلمته أمام الكنيست الاسرائيلي ومقارنة وضع أوكرانيا بوضع إسرائيل ، وكأنه يضع الفلسطينيين محل الروس ، ويشير إلي استعداده الالتقاء مع بوتين للتفاوض في " القدس " !! ( متجاهلا أنها مدينة محتلة ) .
تدريجيا ، بدأت أشعر أن الرجل لم يتخل عن روح الممثل في أعماقه ، وبدلا من المسرح الصغير الذي كان يلعب فيه أدوارا كوميدية ، فإنه وجد مسرحا أكبر بطول وعرض شاشات الدنيا كي يلعب دورا تراجيديا بينما بلاده تتعرض لتدمير ممنهج ، وكأنه سيواصل الرقص علي أطلال ما قد يتبقي من أوكرانيا ، حيث يضمن في النهاية أنه سيجد بيتا وحماية في أي عاصمة أوروبية ، وربما في القدس !.
ذلك لا يعني ، ولا يمكن أن يعني أنني لا أدين الغزو الروسي ، أو أنني غير معجب بشجاعة وصمود الشعب الأوكراني في الدفاع عن وطنه ، وانما أجد في سلوك الرئيس الأوكراني ما يمكن أن يكون مقبولا في عالم الفن والأداء المسرحي ، ولا علاقة له بفن وفهم السياسة والدبلوماسية وعلاقات القوة ومعادلاتها .
لقد كتبت مقالا في اليوم الأول للحرب ، أوضحت فيه أن هناك أبعادا لن يخرج عنها العمل العسكري ، لأن هناك معطيات لا يمكن إغفالها ، فلا يمكن إغفال أن روسيا دولة نووية ولديها قوة عسكرية ضخمة ،كما لا يمكن إغفال أن الغرب قد اخل بالترتيبات التي تم التوافق عليها بعد انتهاء الحرب الباردة وخاصة فيما يتعلق بتمدد حلف الناتو ، بل إنه في بداية التسعينات من القرن الماضي دار جدل حول جدوي استمرار الناتو كحلف عسكري بعد تحلل حلف وارسو ، وظل الحلف يزحف مقتربا من حدود روسيا الشرقية ، بل وقام بضم دول كانت جزءا من الإمبراطورية السوفييتية مثل دول البلطيق ، كذلك لا يمكن إغفال التحرك الأمريكي الحثيث منذ سنوات لحصار الصين ، وقصقصة أجنحتها الاقتصادية ، وهو ما شكل بشكل تلقائي تحالفا ضمنيا بين موسكو وبكين ، لا تبتعد عنه الهند كثيرا ، وعلي الهامش يمكن أن نجد كوريا الشمالية وفييتنام .
لقد رأيت منذ البداية أنه علي الرئيس الأوكراني أن يدرك أن الحل التفاوضي يعني في النهاية أن روسيا لا تبدو منهزمة ، وأن القرم لا عودة لها ، ويمكن تحسين شروط التفاوض والحصول علي صفقة معقولة فيما يتعلق بالمناطق الانفصالية ( مثل منحها حكما ذاتيا في إطار السيادة الأوكرانية وسحب الاعتراف الروسي بها كجمهوريات مستقلة ) .. إلخ ، واقترحت أن يبادر بطلب التوجه إلي موسكو للتفاوض مع بوتين .
أمريكا والغرب يدركون بلا شك هذه الحقائق ، واعلنوا أن قصاري جهدهم هو فرض عقوبات علي موسكو ، لأنهم لا يريدون التورط في حرب ستكون عالمية ، أي أنهم بإختصار يريدون أن يضعفوا روسيا بالقتال إلي آخر جندي أوكراني ، وذلك أسلوب وحشي لا يعبأ بدمار دولة وتمزيقها في إطار اللعبة الدولية ، رغم علمهم بمحددات النهاية الحقيقية لهذه اللعبة الدموية .
ذلك هو موقف الغرب ، الذي هو استمرار لوحشيته التاريخية ، فلقد كانت أبشع الحروب في التاريخ البشري هي تلك الحروب التي شهدتها القارة الأوربية ، بل ونشرتها في شكل الظاهرة الاستعمارية إلي العالم كله ، كيف يمكن نسيان مذابح الفرنسيين في الجزائر وأفريقيا وفييتنام ، بينما يقف رئيىسها ماكرون اليوم يبكي بدموع التماسيح علي ضحايا أوكرانيا ؟ ، كيف يمكن نسيان مافعلته بريطانيا العظمي من فظاىع في إمبراطوريتها التي لا تغيب عنها الشمس ؟، كما يكفي مراجعة تاريخ أمريكا منذ نشأتها ، كيف أبادت الشعب الاصلي ، بل وكيف كانت وحشية الحرب الأهلية فيما بعد ، ناهيك عن حروبها الدموية في كوريا وفييتنام ، وما فعلته من مجاذر في أفغانستان والعراق ، بل وكيف وقف هذا الغرب صامتا ومباركا لمذابح إسرائيل في فلسطين حتي الآن ؟.
كيف يتغافل الرئيس الأوكراني عن كل هذه الحقائق التاريخية ، ويكتفي بعرضه اليومي علي مسرح العالم منتزعا الآهات والتصفيق من الكونجرس الأمريكي ومجلس العموم البريطاني والبوندستاج الألماني والكنيست الإسرائيلي ، بينما بلاده تتفتت مدينة بعد مدينة وبيتا إثر الآخر وشعبه يتحول إلي شعب من اللاجئين ؟..
أن المهمة الأولي لأي سياسي مسؤول هي الحفاظ علي سلامة شعبه وسلامة أراضيه بكل ما يتيحه الفهم الصحيح والتقدير السليم للظروف والمعطيات ، لأن مصائر الشعوب نصوص تكتب كل يوم ، وليست سيناريوهات سابقة الإعداد يؤديها مجموعة من الممثلين الفاشلين !.
معالي السفير. تحياتي وتقديري وخالص أحترامي لشخصكم الكريم..
ردحذفتحليل رائع..