لا شك أن روسيا غيرت من استراتيجيتها العسكرية والسياسية، وخفَّضَت سقف توقعاتها التي كانت تحلم بها مع بدء غزوها لأوكرانيا.
في الأسبوعين الأولين نجحت روسيا في إعطاء انطباع للعالم كله، ولأنصارها تحديدا، أنها قادرة على احتلال كل أوكرانيا. ولكن الغرب لم يمرر الأمر كما مرر موضوع القرم وسيفاستوبول، والوجود الروسي في مدينتي دونيتسك ولوجانسك. في هذه المرة نهضت الآلة الغربية بكل مكوناتها، وأفسدت توقعات وأحلام موسكو.
بعد مرور 5 أسابيع من الغزو الروسي لأوكرانيا، تكبدت القوات الروسية خسائر كبيرة، فيما نجحت هي في تدمير مواقع دفاعية وبنى تحتية في العديد من المدن الأوكرانية. وفي الحقيقة، فالقوات المسلحة الروسية لا تعمل وحدها في الأراضي الأوكرانية، وإنما هناك أجهزة وقوات خاصة في هذه الأجهزة تعمل بقوة وهدوء وصمت وخلف خطوط الدفاع كما يقولون. وبالمثل فالقوات الأوكرانية لا تعمل وحدها، لأنه كان من المتوقع أن تبدأ روسيا بالقضاء على الجيش الأوكراني. وبالتالي، نجحت أوكرانيا في بناء قطاعات دفاعية وجيوب للمقاومة. ونجحت هذه القطاعات والجيوب في إفساد غالبية الخطط العسكرية الروسية، بل وكبدتها خسائر فادحة. وهذا طبعا ليس بعيدا عن مساعدات الغرب.
الغرب ساعد أوكرانيا بقوة على جميع المستويات: الأموال والأسلحة والاستشارات العسكرية وتقديم المعلومات الاستخباراتية، والدعم القانوني واللوجستي، وفرض العقوبات على روسيا، واستنزاف الاقتصاد الروسي. وبالتالي، أعلنت روسيا بسرعة أنها انتهت من المرحلة الأولى لعملياتها العسكرية بتدمير الأهداف الدفاعية والبنى التحتية العسكرية والأمنية بشكل شبه كامل. وهذا الكلام غير دقيق، ولكنه للاستهلاك المحلي من جهة، ولتبرير الحملة العسكرية عموما، وأيضا من أجل تبرير التراجع عن احتلال كييف وبعض المدن الكبرى من خارج نطاق الجنوب والشرق.
روسيا اضطرت لتغيير خططها خلال الأسبوع الخامس من الغزو حتى لا تقع في نفس الفخ الأفغاني- السوفيتي أو الفخ السوري- الروسي الحالي. ومع ذلك فلا توجد أي ضمانات لعدم استمرار استنزاف روسيا عموما، وقواتها التي تحتل أوكرانيا على وجه الخصوص. والمسألة مسألة وقت، خاصة وأن موسكو تنوي التركيز على احتلال جنوب وشرق أوكرانيا، وتثبيت سلطتها هناك، وإجراء تغييرات قانونية وديموجرافية وإدارية، تمهيدا لسلخ الجنوب والشرق وإغلاق المنافذ المائية لأوكرانيا. وهذا لن يمنع روسيا من تجريب صواريخها على غرب أوكرانيا أو حتى على العاصمة كييف نفسها. ولكن التركيز سيكون على الجنوب والشرق. وستفاوض موسكو على قطاعات وأهداف واقعة في نطاق صواريخها "الفرط صوتية" كما يحب المترجمون الروس وصف أسلحتهم الأسرع من الصوت.
الطريق لا يزال في بدايته. وحرب الاستنزاف لم تبدأ بعد. وفي الحقيقة، فالغرب يقوم بتسليح أوكرانيا بشكل مذهل، ويعوضها يوميا عن كل ما تفقده قواتها وقطاعاتها العسكرية. وهذا الأمر يثير ذهول روسيا التي كانت تتوقع نزهة سريعة وعابرة. الطريق لا يزال في بدايته، لأن القطاعات العسكرية الأوكرانية وجيوب المقاومة لن تترك روسيا على حريتها في الجنوب والشرق. وستجري عمليات تدمير غير مسبوقة من الجانبين. ولبا أحد يدري ماذا يمكن أن يحدث على مستوى طرق المقاومة والهجوم والانتقام والتخريب!!! أي ستكون هناك عمليات استنزاف في حدودها القصوى ولوقت طويل. ويبدو أن الغرب مستعد لذلك، بصرف النظر عن انسحاب قوات بوتين من عدمه.
إلى الآن، لم تتمكن القوات الروسية من الاستيلاء على مدن وقضاءات ومناطق حيوية في جنوب وشرق أوكرانيا. وهذا الأمر يغيق موسكو عن تنفيذ بعض الخطط. هناك مقاومة أوكرانية غير عادية. وهناك عمليات انتقام من الطرفين. غير أم ما يمكن قوله الآن، هو أنه مهما نجحت روسيا في تثبيت احتلالها للجنوب والشرق، ومهما حاولت أن تفاوض بعد ذلك وفق الأوراق التي تملكها، فإنها لن تنجح على الإطلاق، لأن الوقت سيكون متأخرا للغاية، وستكون العمليات العسكرية والسياسية والاقتصادية قد انتقلت إلى مراحل أخرى تماما.
لقد كتبنا في وقت سابق عن مسألة إعلان الطرفين انتصارهما، وأن هذا هو الوقت المناسب لإجراء مفاوضات جدية للوصول إلى أي صيغة. ولكن الغزو دخل أسبوعه السادس بقسوة وعنف، وخطط جديدة، وتحولات قانونية تتعلق بجرائم الحرب، واستفزازات واضحة من كل الأطراف إزاء بعضها البعض، والأهم من كل ذلك، هو فقدان الثقة المتوافر بين روسيا من جهة وأوكرانيا والغرب من جهة أخرى.
في اليوم الأربعين للغزو الروسي لأوكرانيا، ألمحت روسيا إلى أنها تتوقع من تركيا إقناع القيادة الأوكرانية بمغادرة قواتها لماريوبول. هذا في نفس الوقت الذي تحاول فيه موسكو السيطرة على خيرسون وأوديسا لعزل أوكرانيا تماما عن بحر آزوف والبحر الأسود وحرمانها من أي منافذ مائية. وبالتالي، التخلص منها كمنافس لتصدير العديد من السلع والخامات عبر طرق نقل منخفضة الأسعار. هذا إضافة إلى بقية الاعتبارات السياسية والعسكرية الأخرى.
الخطير هنا أن روسيا تطلب من تركيا أن تساعدها في إخراج الأوكرانيين من ماريوبول لتستكمل احتلالها. وحدث أن ظهرت تلميحات بشأن ضرورة قيام أردوغان برد الجميل لبوتين. فالأخير هو الذي نبهه ونقل إليه المعلومات الخاصة بالإطاحة به عام 2015. وبالتالي، هو مدين لنظيره الروسي. والوقت قد حان الآن لرد الجميل. ولكن بكل الشواهد والملاحظات والمسوغات، أردوغان لن يفعل ذلك لا لأنه لا يريد، ولكن لأنه لا يستطيع. وعموما، فقد تم تدمير حوالي 90% من ماريوبول. وهناك مناطق قد تم حرقها والقضاء عليها تماما.
بالعودة إلى تغيير خطط روسيا، مع الإبقاء على تهديد غرب أوكرانيا وكييف بالصواريخ من بعد، نجد أن الأمور تدخل فعلا إلى مرحلة جديدة تجعلنا نؤكد أن خروج القوات الروسية أو ابتعادها عن جنوب وشرق أوكرانيا سيكون صعبا للغاية. وتجعلنا نؤكد أيضا أن الأمور لن تعود إلى ما كانت عليه قبل الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير 2022 إقليميا ودوليا.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق