لم يحل صيف أغسطس الحار، دون إحساسي الطاغي برعشة البرودة مساء ذلك الأربعاء الحزين وما زالت الذاكرة تبحث في زواياها الدفينة عن معنى مفهوم لتلك الظاهرة الإنسانية الفريدة، عندما تختلط مشاعر إنسان ما بواجبات وظيفة شاذة وقاسية ..
وحينما تتداخل فرحة اللحظة بإمكانية الإنصاف برهبة الخوف من المجهول .. هنا يستحضر الذهن ملامح الصول «مسعود»؛ بشاربه الكثيف .. وجلبابه الأبيض وجسده الضخم وملامح وجهه التي لا تخلو من ملاحة .. وسط العتمة و العطانة وصرير الحشرات داخل زنازين حالكة السواد والظلام احتوت نفوسًا بشرية كل جريرتها أنها تاقت للعدالة و الحرية .. وتصدت لظلم اجتماعي يُمارس على قطاعات واسعة من السكان، فأغلقت خلفها أبوابًا صلدة سميكة واكتوت وحدها برهبة العمى وانعدام الإحساس بالزمان والمكان.
مع خيوط يوم جديد، يأتي صوت «الصول مسعود» مصحوبًا بصوت مزلاج صعب شديد المراس .. ومفتاح للزنازين يزيد طوله عن ثلاثين سنتيمتر، يذكرنا بزنازين العصور الوسطى المملوكية.
: صباح الخير .. الحمامعبد
نجری مهرولين إلى دورة المياه .. و يا لها من دورة مياه.
على ربوة مرتفعة بعض الشيء .. أقيمت دورة مياه .. حفرة صغيرة وصنبور مياه بجوارها ... وزجاجة من البلاستيك .. المكان كله ممتلئ بالقاذورات .. ليس هناك باب ستار.
هنا عليك أن تقضى حاجتك رعة، حتى يتمكن الزملاء الأخرون من حوائجهم وليس لك من بديل خارج هذا المبنى الصغير، يوجد حوض من مربع أسمنتي رُكب فوقه صنبور للإغتسال الصباحي وغسيل الملابس، دقائق وتحصل على وجبة الصباح .. عدس أو شيء يشبهه، فول مقترنًا به سوس أو العكس .. لا يهم.
الصول مسعود ذلك الوحش الكاسر .. علامة من علامات المكان، تخرج من تحت يديه عشرات وربما المئات من المساجين .. بعضهم قضى نحبه، و الأخرون ترك فيهم من العاهات و الجروح والألام ما لا تندمل ولا تشفى بمرور الزمن أو ترك المكان. وبمرور الأيام أصبح «عم مسعود قريبًا إلى قلوبنا .. وأصبحنا أشبه بأبنائه .. ازداد تعاطف الرجل مع قضيتنا، أو على الأقل تزايد إشفاقه علينا
: أنتم ناس محترمين .. مهندسين ودكاترة ومثقفين وصحفيين .. ليه تبهدلوا نفسكم هي البلد دى فيها قانون ولا عدالة ؟ استطرد «عم مسعود» : : دوروا على مستقبلكم.
ومع كل يوم جديد .. بدأت قرارات النيابة بالإفراج عن بعض الزملاء .. فيأتي «عم مسعود» لاهنا لتوديع من سيخرج إلى الحرية من جديد .. نهتف للرفاق نتبادل الأحضان وفي العيون دمع حزين لذكرى تجربة مريرة وقاسية.
7_ إيراد جديد
كسرت حاجز الصمت والرهبة صباح كل يوم في سلخانة التأديب بصياحي المتكرر
مع إشراقة شمس يوم جديد
: يا فرج الله .
وسط همهمات المساجين الجنائيين نزلاء التأديب، ضحك الضابط (ح) حينما سمعنى أردد مقولة أبو شوشة الشهيرة وداعــبـــنـــى قـائــلاً :
: الله .. ده أبو شوشة ضمك لحزبه ولا إيه؟!
كان النقيب (ح) نموذجًا فريدًا من ضباط مصلحة السجون، فهو نوع أخر من نفس المعزوفة الحزينة، شاب من عمرنا أو يصغرنا قليلًا، صغير الحجم بعض الشيء .. أنيق في غير تكلف .. كان في إجازة حينما قذفت بنا إدارة السجن في سلخانة التعذيب (التأديب) الذي كان . هو . قائده .. وبعدما تبادلنا التحية الصباحية اكتشفنا (نحن وهو) أننا لا شك سنصبح أصدقاء .. وقد كان.
هذه هی أول مرة يرى فيها الضابط (ح) ويتعامل مباشرة مع مساجين سياسيين أو ظل (ح) طوال فترة تواجدنا في (التأديب) وسيلتنا للتعرف على ما يجرى في الخارج، فقد اعتاد على شراء ثلاث جرائد يوميًا، بما فيها صحف المعارضه ( الوفد - الأهالي)، حتى يتسنى لنا معرفة حقيقة ما يجرى.
وبرغم التعليمات المشددة من قيادة مصلحة السجون ووكيلها المجرم اللواء «مصطفى» وجهاز مباحث أمن الدولة بالحبس الانفرادى والإغلاق الدائم للزنازين، قد سمح الضابط (ح) بفتح الزنازين علينا معظم ساعات النهار، وترك لنا حرية التناول الجماعي لوجبة الغذاء بدلًا من ( الانفرادي ).
ويظل هناك خط فاصل بين الإنسان ودفء مشاعره، وبين ا النظام وقسوة متطلباته وتوحشه.
ففي صباح أحد الأيام .. استيقظنا على صوت صراخ هيستيري في قسم التأديب .. وضرب وجرى العسكر خلف بعض ( الإيراد الجديد ).
ثلاثة من المساجين الجنائيين، تشاجروا في زنزانتهم وأحدثوا إصابات دامية ببعضهم البعض، فأتوا بهم إلى التأديب، وكانوا على موعد مع " الاستقبال " الخاص بنزلاء التأديب.
صراخ .. شتائم مفزعة .. وعشرة من الجنود والصول مسعود وصول أخر، والضابط (ح) ينفردون بكل واحد على حده. ساعتين أو أكثر مروا كدهر .. عصى . خراطيم المياه وأحزمة الجنود على اللحم الحى لجسد عارٍ لهؤلاء، كانوا قد أصبحوا جثث هامدة. وكل جزء من هذا الجسد يقطر دماً .. حينما ألقوا بهم في زنازين انفرادية وبعدها فتح الباب على زنازين السياسيين .. وفوجئنا بالضابط (ح) يطلب صابونة من أحدنا ليذهب للإغتسال مما علق بيديه من دم هؤلاء الضحايا.
انتابني إحساس بالفزع والدهشة .. ثم سألت
: أنا لا أصدق .. هل يمكن أن .. أنت .. ؟
أجاب في هدوء
: ما هو لو ما عملناش كده مش حنعرف نسيطر على الليمان .. أحنا بنتعامل مع حثالة المجتمع.
: لكن ألا يوجد لائحة للسجون .. ألا يكفى الحبس الانفرادي في ذلك القبر الدامي .. اللائحة تعط الكثير فلماذا التعذيب؟
نظر إلى الضابط (ح) ما بين الابتسامة .. و الاستهزاء ولاذ بالصمت.
استخلصت من هذه الحادثة .. حقيقة واحدة .. إنها جريمة نظام .. وليست جريمة ضابط هنا أو هناك .. صحيح أن البعض يعطى لجريمة النظام معنى أكثر قسوة ووحشية بفظاظته المبالغ فيها، وعقد النقص تتزايد وتتكثف مع الأيام، ولكنها تبقى قبل ذلك وبعده .. جريمة نظام.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق