إذا احصيتموه بالثلاثة تتبقي بيضة، وإذا احصيتموه بالأربعة تتبقي بيضة، وإذا احصيتموه بالخمسة تتبقي بيضة، وإذا أحصيتموه بالستة تتبقي بيضة، وإذا احصيتموه بالسبعة فلا يتبقى شئ..
انها حسبة برما ياسادة.. تلك الحسبة الشهيرة التي وقعت أحداثها في قرية "برما" بالغربية وكانت بطلتها فلاحة بسيطة اعتادت شراء البيض من المزارعين والذهاب به إلى سوق القرية لبيعه من أجل الإنفاق على أولادها..وذات يوم صدمها شاب بدراجة ووقعت سلة البيض من فوق رأسها ليتحطم مابها تماما على الأرض.. وجلست تبكي وألتف حولها الناس وحاولوا مساعدتها بجمع ثمن البيض وسألوها عن عدده فأخبرتهم بهذة الفزورة التي احتار فيها المثقف والجاهل، المتعلم والأمى، الصغير والكبير، حتى تفتق ذهن احد الحكماء وقام بفك طلاسم المعادلة وأخبرهم انها كانت تحمل ٣٠١ بيضة.. ومنذ ذلك اليوم وأصبحت حسبة برما نموذجا لكل لغز ورمز لكل مبهم..تذكرتها وانا احاول مجرد التفكير فيما يحدث.. ربما تطابق القصة مع رمزية الواقع شكلا موضوعا..
تذكرتها عندما علمت أن بند الأجور في الموازنة الجديدة يعادل ١٣٪من الموازنة العامة.. نعم..نسبة قد يعتبرها البعض كبيرة لكنها حتى لو اعتبرناها كذلك فهي ليست عادلة والجميع يعلم جيدا مالذي أعنيه..انها ليست عادلة في توزيعها فقط ولكن فيما تضمنته الموازنة إذا علمت أن نسبة سداد القروض وفوائدها تلتهم نحو ٥٤٪من الموازنة العامة.. أي أكبر من نصف موازنة مصر لا علاقة للشعب بها من بعيد او قريب..لاتتعجل وتندهش ولكنها الحقيقة..فالذين يعلمون إجمالي الديون عددهم بالكاد صفر.. والذين يعلمون أيضا أين ذهبت نفس العدد.. والذين تم اعتبارهم شعب وتم احترامهم ومناقشتها معهم قبل الحصول على قرض أيضا نفس العدد.. أما الذين يعلمون أرقام المليارات التي حصلت عليها مصر كمعونات ومساعدات وهبات ومنح فعددهم معروف..!!
أليست هذة حسبة برما..تلك الحسبة التي تضمنت بناء كوبري حسن المأمون أمام النادي الأهلي وتكلف ٣٠٦ مليون وبعد عدة شهور نكتشف صدفة انه فوق خط غاز رئيسي وبعد كارثة يتم إزالة الكوبري.. أليست هذة حسبة برما.. وهذا الكوبري مثل بيضة في سلة الفلاحة التي حيرت حسبتها البشر.. فالسلة مليئة بالبيض الذي لايعد ولايحصي وربما ذلك يكون مقصودا حتى تظل الحسبة عويصة..ليست كباري فقط لكني سأخبرك بحقيقة دامغة على سبب استدعائي لقصة الفلاحة.. لقد بلغت من العمر ستون عاما ومنذ أن وعيت وأدركت الحياة وانا أشاهد أعمال هدم وحفر الطرق والأرصفة ثم السفلته لايتوقف لدرجة ان إحدى امنياتي أن تنتهي مصر من السفلتة والأرصفة قبل وفاتي.. احلم بمشاهدة ذلك اليوم الذي أراه لن يحدث ولاسيما أن السنوات القليلة الماضية شاهدت شوارع القاهرة الجديدة وهي أشبه بمن يستبدل ملابسه شتاء وصيفا وخريفا وربيعا.. انها سبوبة المليارات ياسادة يا كرام التي تعد بيضة ذهب للمنتفعين وهم معروفين.. اتخيل ان مهندسي مربع عباس العقاد مثلا او احد مناطق حي شبرا عندما يضيق بهم الحال يلجأون للهدم والحفر والسفلته حتى تحدث طفرة ثراء سريع..وعندما يعلم زملاؤه بحي عابدين يحاكونهم.. وهكذا.. أليست هذة حسبة برما..!!
وبالمناسبة.. وفي ظل حديث الأرقام والموازنة.. أرقام الخدمات مثل التعليم والصحة لتتناسب إطلاقا مع مشاكل هذا الشعب الذي ينفق على التعليم والعلاج ما لا طاقة له به وفوق قدرته خاصة الطبقة المتوسطة التي تهبط للفقر وسريعا.. وعندما تخبرني على سبيل المثال انك تنفق على الصحة ١٣ مليار أتعجب بل ربما اضحك صمتا..فهذا المبلغ لاينفق على الصحة ذاتها ولكن على إدارات الصحة..فالذي تنفقه لتحسين الخدمة اي علاج وعمليات جراحية وفحوص بات رقمه صفرا.. أما ماتتفقه على طلاء المستشفيات واستحداث مكاتب وبوابات أمن واكشاك تذاكر وأجهزة حاسب ألي للتذاكر وما إلى ذلك من نفقات يعتبر ميزانية الصحة..مثل الحال ينطبق على التعليم..فالذي تنفقه على العملية التعليمية ذاتها بمردود مباشر على التلميذ يكاد يكون منعدم.. لكن ماينفق على الجدران يلتهم الميزانية..
عندك أيضا الطرق.. فالمواطن يدفع ضرائب لكي يتم تمهيد الطرق بشكل محترم ومتحضر وآمن له من هذة الضرائب.. ثم يذهب بترخيص سيارته يدفع أيضا لكي يتم النهوض بالطرق..ثم تعتمد الدولة في ميزانيتها موازنة لوزارة النقل تتضمن الإنفاق وصيانة الطرق.. ثم في النهاية يدفع المواطن رسوم للسير في الطرق.. أليست هذة حسبة برما..؟!
طيب سيبك من الكلام الفارغ ده لأنها شوية مليارات.. أين ذهبت خطوط الترام والمترو في أرجاء القاهرة الكبرى مثلا..وكيف تم التخلص منها وما الرقم الذي بيعت به..القصبان والاعمدة ناهيك عن عربات المترو والترام ذاتها وكذلك جراجاتها وورشها.. أليست هذة حسبة برما..!!
طيب لو حاولنا وهذا مرفوض ومجرم أن نعرف سلة بيض العاصمة الإدارية تتضمن كم من البيض هل احد يعلم.. أو بالأحرى هل احد يجرؤ أن يعرف..وهل هناك متر مربع أو شقة أو محل خاضع للدولة بشكل رسمي..هل هي خاضعة إداريا وماليا وفنيا وقانونيا لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة.. وهل يمكن أن تكون هناك إحصائية دقيقة عن تكلفة البنية التحتية والفوقية ومن أين جاءت وكيف ولمن تم سدادها.. لا أحد يعلم.. أليست هذة حسبة برما..
هل احد يعلم أرقام دقيقة وموثقة عن الشركات والأراضي والممتلكات العامة التي تم طرحها للبيع منذ أن تفتق ذهن عاطف عبيد عن ذلك الفكر الشيطاني وحتى يومنا هذا..؟!.. وهل احد يعلم اين ذهبت تلك الأموال بل وكيف تم البيع..؟ لا أحد يعلم..أليست هذة حسبة برمة؟!
طيب..هنبيع مثلا فندق رمسيس هيلتون.. لماذا.. لا أحد يعلم.. هل يخسر.. كيف والذي يمتلك بازارا مساحته أربعة أمتار يبني من أرباحه عمارات ويمتلك شاليه ويجهز بناته وأولاده للزواج.. طيب لماذا هذا الفندق الذي أعلم جيدا أن إدارته العالمية بارعة..اما الفنادق والدور التي لانعلم عنها شيئا لانعرضها للبيع إذا كانت اساسا تابعة للدولة فرضا يعني..لماذا أصول الدولة فقط هي التي تباع وبهذة السرعة والغموض.. لا أحد يعلم.. أليست هذة حسبة برما..؟!
اذكر في عام ١٩٨٩ تحديدا عندما بدأت جنوب سيناء تتوسع سياحيا وكنت متابع جيد للأمور هناك يوم بيوم لاني منذ أن اشتغلت في مهنة الكوارث ارتبطت بسيناء على قدر عشقي لها ولترابها..حينها كنت اتخيل ان المستقبل لابد وأن يكون مختلفا..ربما كانت ساذجة متناهية أو لأنني لم أكن قد دخلت الدهاليز والإنفاق الخاصة المعتمة جدا.. حينها دخلت على استاذي الراحل أنيس منصور وكان رئيس تحرير جريدة مايو واستأذنته في خمس دقائق وجلست وانا في المهد صبيا وقلت له :فندق ميريديان ايه رأيك فيه ياريس؟.. ولأنه فيلسوف ويكره الأغبياء نظر بعينه من خلف نضارته قائلا : عاوز تقول ايه؟.. قلت : تخيل حضرتك ياريس فندق ناجح وبضخامة وتاريخ الميريديان لو فتحنا باب الاكتتاب به بحيث يمتلك رجال الأعمال والمستثمرين ٤٩٪ منه كأسهم وللدولة النسبة الباقية الآمنة وتقوم الدولة بتلك الأموال ببناء ليس أقل من ٤ فنادق ضخمة في سيناء وهكذا..وبالتالي ستتسع رقعة أملاك الدولة وسيطرتها على الأرض وتوفير فرص عمل فضلا عن دورة توظيف رأس المال بما يضمن مضاعفة الإيرادات أضعاف مضاعفة..نظر قائلا :ماتتحدث عنه فكر ربما يكون قابل للتطبيق من عدمه وعليك مناقشته مع وزير الوزارة التي من المفترض انك محررنا هناك.. وماسيقوله سيكون حوار وتحقيق صحفي سانشره على الفور.. وبالفعل توجهت للسيد فؤاد سلطان هذا الرجل الذي ربما لم تشهد مصر مثله في هذا المجال.. وجلست إليه وعرضت الفكرة وتناقشنا ونشرنا الموضوع صفحة كاملة حيث أعلن أن هناك خطة سيتم الإعلان عنها للبدء في مشاركة القطاع الخاص للدولة في مشروعاتها السياحية ولكن تم التعديل وأصبحت الخطة"بيع" وحدث تدريجي..ومنذ هذا الوقت وانا في دهشة من أمري ويتردد السؤال بداخلي ليل نهار.. لماذا؟!.. ليس فقط في قطاع السياحة ولكن سائر القطاعات ويطول الحديث عن تلك الفترة..
انها لعنة يا سادة يا كرام.. اسمحوا لي أن أطلق عليها لعنة "برما" التي صنعتها فلاحة بمنتهى العفوية ولم تكن تعلم أنها ستتحول إلى أصول إدارة.. وأسلوب حياة.. ومنهج..حتي بات الأمر برمته مجرد سلة بيض مجهولة العدد..!!
رائع ... سلمت يداك .
ردحذف