يحيى حسين عبد الهادي يكتب : الجيشُ الحارس .. لا الجيشُ التاجر

هذا الجيش لنا فيه أكثر كثيراً مما للمزايدين علينا في مَحَبَّته .. ولِكَيْ أُغلق باب المزايدة في وجه أَيٍّ من مُدَّعِيي الوطنية، أجِدُني مضطراً وآسِفاً لولوج المدخل الشخصي التالي (الذي لا أُحَبِّذه) لتناول هذه القضية العامة: 

(رغم أنني كُنتُ مُعَافىً طبياً من الخدمة العسكرية "نَظَر"، فقد سَعَيْتُ للالتحاق بالجيش من خلال الكلية الفنية العسكرية .. لا بحثاً عن مأوى، فقد كنتُ أعيش مُنَّعَماً في بيت أبي القاضي في أسيوط .. ولا بحثاً عن وظيفةٍ محترمةٍ، فقد كان مجموعي المرتفع في الثانوية العامة كفيلاً بإلحاقي بكل ما يُسَمَّى كليات القمة، بما فيها كل كليات الطب .. وإنما كان قراري"وكثيرين غيري" في هذه السِنِّ المبكرة هو الالتحاق بالقوات المسلحة، جهاداً في سبيل الله والوطن لأنَّ سيناء كانت محتلة، في الوقت الذي كان فيه كثيرون ممن يزايدون علينا الآن يتهربون من شرف الجندية .. ثم أمضيت نصف عمرى الوظيفى ضابطاً مهندساً فى القوات المسلحة ولَم أرَ "وغيري" فى ذلك غير واجبٍ شرَّفَنا الله بأدائه ولا تجوز المزايدةُ به على أحد .. كانت عقيدتنا العسكرية تتلخص في "إنَّ حِفنةً من تراب الوطن تُساوي روحك" .. كانت الرواتب ضعيفةً والعملُ شاقاً، لكن هاماتنا كانت مرتفعةً ونحن نسير متدفئين بِحُبِّ شعبنا، وبإحساسٍ متبادَلٍ بأننا من ذوي العيون الحارسة التي لا تَمَسُّها النار يوم القيامة "بِنَصِّ الحديث الشريف").

بعد ذلك كُنَّا شهوداً على بداياتٍ متدرجةٍ ومُقَدَّرَةٍ لإنشاء كياناتٍ صناعيةٍ مُحَدَّدَةٍ ضمن مشروعٍ وطنىٍ للراحل أبو غزالة لتحقيق الاكتفاء الذاتي للقوات المسلحة .. إلى هنا كان الأمرُ  جَيِّداً ومحموداً وذا بُعدٍ تنمويٍ لأنه أَدَّى إلى إعفاء ميزانية الدولة المُتعَبَة من عِبءِ إطعام وكِسوَة الجيش (معظم دوَل العالم تُطعِم وتكسو جيوشها).

لكن التوسع في هذا الاتجاه بلا كواب، طعنةٌ مزدوجة النَصْل تصيب الحياة العسكرية والمدنية في آنٍ واحدٍ ..  فالأصل أن الجيوش لا شأن لها بالشأن المدني (سواء السياسي أو الاقتصادي) إلا استثناءً كما  في حالات الكوارث الطبيعية، كمُساعدٍ لا كبديلٍ لأجهزة الحماية المدنية .. فالدولَ تنهضُ بتكامل (لا بتبادُل) أدوار مؤسساتها .. دور الجيش أن يحمى بكفاءة كل أنشطة الدولة المدنية .. لا ينافسها فى مجالاتها ولا تنافسه فى مجاله .. فكما نرفض لدرجة التحريم قيامَ ميلشياتٍ مدنيةٍ بدور الجيش، نرفضُ أن يحل الجيش محل قطاعات المناقصات والمزايدات فى وزارات الدولة .. أو أن يُنافس فى سوقٍ استهلاكىٍ، منافسةً لن تكون عادلةً  بأى حالٍ  مهما صدقت النوايا .. فضلاً عن أن ممارسات السوق تخدش نقاء وطهارة الصورة الذهنية للجيش .. وتَدُّقُ إسفيناً لا مُبرر له بين شعبٍ يُحِّبُ جيشَه، وجيشٍ نُحَمِّلُه بما هو فوق طاقته ونُقحِمُه فى غير دوره.

قد يقول قائلٌ إن هذه الممارسات لا تؤثر على كفاءة أداء الجيش لمهامه القتالية الأصلية .. وبافتراض أن هذا القولَ صحيحٌ (وهو ما نتمناه)، إلا أن المؤكد أنها تُؤَّثِرُ بالسلب على النشاط الاقتصادى فى مصر .. وهو فى الأساس نشاطٌ مَدَنىٌ قائمٌ على المنافسة والحرية .. لكنه (بِقِطاعيه العام والخاص) صار يُعانى من الاختناق نتيجة ممارسات المناخ الديكتاتوري الفَجِّ القائم على التَغَّوُلِ والجهل وعدم المحاسبة.

بناءُ مصر مُهَّمَةٌ مدنيةٌ بالأساس بامتداد تاريخها .. المدنيون هم الذين بَنَوْا السد العالى .. وأقاموا المصانع والمزارع والمدارس والمستشفيات .. وأبدعوا الفنون .. وأداروا (ولا يزالون) كل شؤون الحياة .. أما الجيش فله مهمةٌ واحدةٌ مُشَّرِفةٌ تكفيه وتكفينا، هى حراسة كل ذلك.

قبل عدة أعوامٍ وصف أحد القادة مشروعات الجيش الاقتصادية بأنها (عَرَقُ) الجيش .. كان اللفظ غريباً على الأسماع واعتبرناه زَلَّةَ لسانٍ .. لا سامَح اللهُ كُلَّ مَن يُصِّرُ على تأكيد هذا اللفظ السُوقِىّ الذي يُسئُ للجيش وللشعب مالِكِ هذا الجيش .. نحن من جيلٍ لم يعرف أن للجيش عَرَقاً .. للجيشِ دمٌ لا عَرَق .. والشعب يضع جيشَه فى مكانةٍ لا يتخيله فى غيرها .. مكانة الجيش الحارس لا الجيش التاجر. 

تعليقات