حمدي عبد العزيز يكتب : أمجاد حقنة الطرطير


أثناء الفحص الروتينى الذى كانت تجريه لى طبيبتى بالسونار سألتنى الطبيبة المعالجة ذات النظارة الطبية والوجه الصارم كصرامة غطاء الرأس والوجه الذى ترتديه عما إذا كنت قد أصبحت بالبلهارسيا فى طفولتى فأجبتها بنعم  ..

 ومنذ لحظة أن ناولتنى قطع المناديل الورقية لتنظيف بقايا الچيلى المستخدم فى تمرير رأس السونار على جسدى إلى أن نهضت من فوق سرير الكشف لأعيد ترتيب ملابسى التى كانت قد التصقت بذقنى أثناء الفحص بالسونار  قفزت فى ذاكرتى مشاهد غير مرتبة لاستحمامى ولهوى انا ورفاقى فى المجرى المائى الذى يمر من أمام بيت جدى لأمى  عندما كنا نقضى إجازة الصيف 

ذلك  المجرى المائى المبهج الذى كان يجرى إطلاق طاقته اسبوع واسبوع بالتباوب  فنتسابق نحن الصغار إلى حافة الترعة لحظة انطلاق المياه خالعين كامل ثيابنا  لنقفز إلى المياه فى بهجة عارمة تتماثل تماماً مع بهجة الأوز الذى كانت تدفقات مياه المجرى المائى أو (الترعة) عقب مناوبة الانسداد مابين اسبوع تنسد فيه واسبوع تطلق فيه .. فتنطلق الدفعات الأولى من تيارات المياه جارفة فى طريقها أفرع الأشجار المتساقطة فى مجرى الترعة ، إلى أن يقترب الماء من الركوب فوق حافة المجرى فى حين تضرب شمس صباحات شهر يوليو صفحة المياه فتترقرق جزيئات فضتها فتتصاعد صياحات أسراب الأوز الأبيض والرمادي (الأخضر كما كان يسميه أقاربى القرويون) وتطير الأوزات لتحلق فوق صفحة المياه كما لو كانت قد اسكرت من البهجة ، وننطلق نحن فى أعقاب الأوز ، نتنافس فى طرق قفزتنا إلى قلب مياه ذلك المجرى المائى الذى يطل عليه بيت جدى ومعى اولاد اخوالى .

 وكانت لعبة (الشعبة والعمود) الفقرة الرئيسية فى ميدان التسابق بالألعاب المائية  وهى عبارة أن يتراجع الصبى منا أمتار للوراء ثم يجرى إلى حافة المجرى فيقفز بكامل جسده فى الهواء فاردا ذراعيه تماما فى حين أن ساقيه مضمومتين ليغير وضعه فى الهواء فتصبح قدميه مفتوحتين إلى الأعلى ورأسه فى الأسفل متجهة بجسده كرأس سهم شديد المرونة نط للأعلى ثم اتجه عكسيا برأسه إلى حيث عمق مياه المجرى المائى أو الترعة كما تسمى ..

 كان يشترط أن يغطس كل منا بكامل جسده فى المياه بحيث لا يظهر منه على سطح المياه سوى كعبى قدمه ، ثم يظهر بعدها فى ثوان إما معلناً انتصاره فى فرحة وانتشاء واما مختبئا بوجهه بين كفيه متحججا بدفع الماء من منخاره معلناً  أنه يحتاج إلى فرصة أخرى داعياً الجميع إلى الخروج إلى شاطئ المجرى لخوض تنافس جديد بينما وقف من بيننا على البر من كان قد اجهدته السباحة فارتدى  ملابسه ووقف على شاطئ الترعة مكتفياً بدور المراقب والحكم بين المتنافسين ..

تعقب منافسات لعبة (الشعبة والعمود) انواع واشكال اخرى من التنافس داخل مجرى الترعة بدءاً من سباق العوم عكس التيار إلى رهانات العوم لأبعد مسافة ذهاباً وعودة متواصلة ، إلى لعبة الغوص والمرور تحت أجساد الاقران السابحين ، وربما تخلل ذلك قرصة فى فخذ أخدهم تنتهى إلى تراشق عارم بالمياه وسط ضحكاتنا ..

كانت اسوء انواع هذه اللعبات هى لعبة (الزحليقة) وهى كانت تعتمد على تبليط حافة المجرى الطينى بأكفنا من أعلى نقطة على الحافة إلى أول نقطة تلمس فيها يتلامس عندها سطح المياه بحيث تصبح هذه المسافة ملساء تماماً لايستطيع أن يثبت عليها جسد ما وينطلق المتسابقون فرداً تلو الآخر نزولاً إلى المياه بوضعية الجلوس منزلقا بسرعة شديدة إلى داخل المياه ومنا من كان يفقد توازنه فينقلب فى المياه ومنا من كان يفوز بنزوله إلى المياه كما هو فى وضع الجلوس الطائر ، لم احب هذه اللعبة التى ظهرت مخاطرها جلية عندما جرح أحد اترابى ذات يوم فى إليته نتيجة بروز بقايا مدببة من جذور شجرة على حين غفلة نظراً لتعمق سطح الزحليقة من كثرة مرور أجساد المتزحلقين ، وتغلغل المياه فى طبقاتها الطينية فى حين أن صاحبى الذى اعمته البهجة كما كانت تعمبنا عن كل ماهو خارج مياه الترعة ولم ينتبه وقت أن حان دوره فى التزحلق فكان نصيبه هذا الجرح الذى ترك علامة فى إليته جعلته لايقرب من شاطئ المجرى عارياً مرة أخرى وحتى لايعايره أحد 

، كنت منذ البداية  أصر على أن استثنى نفسى من المشاركة هذه اللعبة بالذات من حيث المبتدأ ليس بسبب جرح مؤخرة زميل السباحة فى الترعة بل لسبب آخر مختلف ، وهو اننى كنت أواجه ساعتها رغبتى فى أن احتفظ لنفسى بخصوصية اننى ابن مدينة وكنت لاأقوى على حفظ توازن جسدى أثناء محاولته الأولى للتزلق على المنزلق الطينى ، ولااخفى أيضا أننى كنت أكره ان يتلوث جسدى بالطين فكان اقاربى القرويون يتندرون على رفضى التزحلق بنعتى بأنى (الواد المصراوى الطرى) أو (البندرى اللى عامل ذى البيضه البروشت) الطرى فيزيدون احساسى بأن هناك ثمة شعرة بينى وبين القدرة فى الانغماس الكامل فيما يفعلون  ..

لم أكن اندهش حين كنت أرى اترابى وهم يقطرون قطرات دم فى نهاية عملية التبول كنت أعتقد أن هذه خاصية تخص القرويين فقط ، إلى أن كبرت وأصبحت شابا وعرفت ماهى البلهارسيا فى حملات التوعية التى كانت تحفل بها جدران الوحدات الصحية فى المدارس وينبهنا لها المدرسون ، لكننى كنت على اعتقاد راسخ بأن البلهارسيا لم تقترب منى بعد  .. إلى أن طلب منى والداى عمل تحليل بول بعد أن لاحظوا اصفرار وجهى ونحولة جسدى ، كنت وقتها طالبا فى  الثانوية العامة واكتشفت على أثر هذا التحليل الذى أجراه لى الدكتور مراد حبيب اصابتى بالبلهارسيا فنصحنى بالتوجه لمستشفى المحمودية العام لأخذ امبولات حقن الطرطير العلاج الوحيد الذى كان متوافرا فى مصر حتى سبعينيات القرن الماضى.

 بطبيعة الحال كنت اذهب إلى المستشفى مرة كل يومين لأخذ الحقنة ،  بمرور الأيام تآلفت مع وطأة دخول رأس إبرة الحقن فى جسدى لأن الممرضة الجميلة التى كانت تعطينى الحقنة بيد خفيفة وابتسامة حنونة كانت اجمل وارق من أن أشعر بوخذ الحقن من يدها ، وهو ماجعلنى لااقبل إلا غيرها يعطينى حقنة الطرطير ، كنت أراها كفاتن حمامه فى ابتسامتها الحنونة أثناء تجهيز حقنة الطرطير  وكسعاد حسنى عندما تنطلق من وجهها طاقات الفرح بيننا أثناء الحديث الذى كان يجرى على هامش جرعة الحقن ، إلى أن توطأ قلبانا علينا ، وأصبحت مواعيد حقنة الطرطير مواعيد حب وهيام وعلاج للروح أكثر منها علاج لتلك الجرثومة التى تسللت إلى جسدى النحيل وقتها فى قصة حب استمرت لسنوات قبل أن تدهمها عجلات الزمن ..

 كانت رحمها الله فتاة رائعة وإنسانة أروع ، ولازلت أعتقد أنها كانت من اروع واجمل البشر الذين عرفتهم ذاكرتى المشاغبة تلك التى تفجر لى صور لحظات وتجارب عشتها كما تفجر البراكين عبر فوهاتها مافى باطن الأرض من مكونات سحيقة .

كنت أنا وقتها محتشداً بكل المعانى والنغمات التى غناها عبد الحليم حافظ ككل شباب جيلى وكانت اغانيه هى طريقتنا الصوفية لصلوات الحب وشعائره التى كانت تتملكنا ، وكانت تطل برأسها من كل خطابات الحب التى كتبها الأولاد والبنات فى ستينيات وسبعينيات القرنين الماضى ، وهكذا ظللت من وقتها مديناً لحقنة الطرطير التى تسببت فى أول خفقة حب نبتت تحت أضلاع صدرى ، ومن منا لاينسى أول حب فى حياته ، أو كما قال سيد جيلنا عبد الحليم حافظ  ( ومين ينسى ومين يقدر فى يوم ينسى ؟ شعاع اول شرارة حب)

ألجمت ذاكرتتى اللحوحة بعد أن انتهيت من ترتيب ثيابى وراء ستارة سرير الكشف وجهت سؤالى للطبيبة ذات النظارة الطبية والوجه الصارم وايشارب الرأس والوجه المحبوك بعناية والتى كانت تجلس خلف مكتبها - منتظرة أن انتهى من ترتيب ثيابى - عما تقصده بسابق أصابتى بالبلهارسيا فى الصغر ، فأجابت بهدوء وابتسامة متحفظة أن هناك (خربوش) فى الكبد ظهر امامها فى السونار ، ثم اردفت وهى تضع وجهها فى دفتر الكشف بأن هذا مجرد خربوش بسيط ولكنها تحب أن تطمئن على سبيل الاحتياط على حالة الكبد  .. قالت لى ذلك بينما تكتب طلب تحاليل وآشعة ، واكملت دون أن ترفع نظارتها عن دفترها بأن على أن أقوم بعمل هذه الأشعة والتحاليل فى أقرب وقت ثم رفعت رأسها بابتسامة ثانية ولكنها ابتسامة الطبيب الذى يريد من مريضه أن ينصرف ليحين دور المريض التالى فى الكشف قائلة .. اطمئن .. انشاء الله بسيطة ، وناولتنى اوراق طلبات التحاليل والآشعة ثم قامت بضغط ذر جرس عيادة الكشف منادية لموظفة العيادة قائلة لها 

اللى بعده  ..

اللى بعده ؟

لفت بى الدنيا ودارت لساعتين اسأل وابحث فى هاتفى على منصة جوجل ماذا يعنى خربوش فى الكبد ؟ 

لم أجد إجابة واحدة وتهت فى زحمة الأجوبة ، وبعد حوارات ونقاشات داخل نفسى مع نفسى وصلت لقناعة أنه فليكن مايكون فالأقدار هى الأقدار  ..

بدأت فى اليوم التالى بعد أن قمت بالصيام حسب تعليمات معمل التحاليل والآشعة الذى حجزت فيه دورى تليفونيا ، أظهرت الآشعة تليف محدود فى الكبد كمااسمته الطبيبة  ، واقتضى ذلك على إثرها أن أقوم بعمل تحاليل شاملة وظائف الكبد وتحليلات تشمل فيروس سى وبى وكذلك دلالات الأورام ، خرجت كل هذه التحاليل سلبية ، وبقى خربوش الكبد كأليف قديم أو كعلامة خالدة تصلح كسبب لابتسامة ابتهاج تطلقها الذاكرة من حين لآخر أمتناناً لأمجاد حقنة الطرطير  ..

ليتردد داخلى صوت عبد الحليم حافظ كلسان حال لماقد استقر فى القلب والوجدان 

(لسه مشوار الحياة شايل لنا وقفات ..

معالم فى طريق الحب أحلى كتير ..

من اللى فات)

تعليقات