قبل قليل، انتهت في مسجدنا تلاوة سورة يوسف في صلاة التراويح، أنا آخر من يكتب عن هذه السورة من زاوية فقهية أو جوانب أحكام التنزيل، سأحاول فقط في السطور التالية استحضار علاقة السورة بانتشار الإسلام في مناطق وسط آسيا وسيبيريا.
وصلت أخبار الإسلام إلى تلك المناطق عبر التجارة منذ القرن الهجري الأول، وعبر البعثات الدبلوماسية السياسية منذ القرن العاشر الميلادي، ثم عبر تأثر زعماء المغول والتتار بديانة مستشاريهم المسلمين، حين اعتنق التتر هذا الدين الذي أسقطوا ممالكه وإماراته من قبل، ومن ثم انتشر الإسلام بين شعوب الدول التي حكمها هؤلاء الحكام التتر.
المناطق التي وصل إليها الإسلام بفضل العوامل السابقة تمتد خريطتها من غرب الصين مرورا بمنغوليا وعبر نهر الفولجا وسيبيريا وبحر قزوين وعلى مشارف ما نسميه اليوم القطاع الأوربي من روسيا الاتحادية.
على سبيل المثال يبلغ عدد المسلمين في روسيا فقط ما يتراوح بين 25 و 30 مليون نسمة (أي ما يقرب من نحو خمس عدد السكان البالغ نحو 145 مليون نسمة).
هذا الرقم يبرر اهتمام روسيا بشؤون العالم الإسلامي، وانشغالها بتتبع موجات أفكاره سواء الراديكالية التي تظهر في القوقاز أو القومية التي تظهر في الأورال.
يذهب عدد مهم من مؤرخي الإسلام في روسيا وسيبيريا والأورال إلى أن انتشار الإسلام تم عبر خصوصيته الثقافية في المقام الأول.
من بين سور القرآن التي لقيت انتشارا واسعا كانت سورة يوسف. تحولت السورة إلى مادة ملهمة للشعراء والأدباء والفنانين والكتاب.
لم تكن السورة مجالا خصبا فقط لتتبع واحدة من قصص الحب التي هامت فيها شوقا وشغفا زوجة وزير بشاب فتنها جماله وحال بينها وبينه عفة سلوكه ومخافة ربه.
تخطى الأمر أيضا حبكة التنقل الدرامي في السجن والولوج فيه والخروج منه، كما تجاوز الإعجاب قدرات يوسف على تأويل الرؤى والأحلام المصيرية التي تنقذ شعب مصر من مجاعة محدقة.
كانت مادة السورة لشعوب هذه المنطقة مصدرا لخيال خصب عن مصر، طبيعتها البيئية بين الجفاف والرخاء اللذين يتعرض لهما نهر النيل، وعن التجاور بين النيل والصحراء، والحضر والبادية.
كانت مشاهد مصر في سورة يوسف سابقة على انتشار علم المصريات الذي تعرف عليه المتعلمون لاحقا في هذه الأقاليم.
وفرت السورة لشعوب هذه المنطقة خيالا يمكن القياس عليه في بيئاتهم سيما أن مشاهد البيئة التي تحدثت عنها السورة تشبه البيئات المجاورة.
فالأنهار التي يعيشون على مقربة منها سيما نهر سيحون (سرداريا) وجيحون (أموداريا) كل منهما تحيط به صحراء كالصحراء التي تحيط بنيل مصر ، تلك الصحراء التي جاء منها يوسف وأخوته.
تشير الدراسات أيضا إلى أن الفضل للأديب التتري كول غالي (قول غالي) الذي ألف في القرن الثالث عشر الميلادي قصيدة ملحمية اسمها "قصة يوسف" مستوحاة من السورة ولكن بلسان تتري يعرفه التتر والبشكير وبعض الشعوب المجاورة في الأورال و سيبيريا.
لا ننسى أيضا التأثير الفارسي القديم في هذا الإقليم وأهم ما ساهم فيه قدرته – دون حرج أو مانع فقهي – على تصوير كثير من مشاهد سورة يوسف، وأشهر مشاهدها النسوة اللائي قطعن أيديهن من رؤية جمال يوسف المبهر.
الحقيقة أن طبيعة انتشار الإسلام خارج دوائره التقليدية ما تزال مجهولة عنا، ولعل في خصوصية الإسلام في بلاد ما وراء النهر، والتركستان، وروسيا حاليا ما يفيد كثيرا فيما نبحث عنه لحقيقة توغل الإسلام برسالته الحضارية واستيعابه وامتصاصه من قبل الحضارات المختلفة والتأثير المتبادل بينهما، وفي هذه الدوائر العديدة..لا بديل عن فهم مصر: تلك التي شغفتهم حبا !
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق