قلبي محطات انتظار
عمري بيشتاقلك نهار
ويفوت عليا الليل طويل
في البرد والخوف والحصار
لا اعرف كم مرة دوت في قلبي كلمات هذه الأغنية القديمة أثناء مشاهدة العمل الدرامي الناضج (قهوة المحطة ) لعبد الرحيم كمال والمخرج إسلام خيري، وهي أغنية للصديق الشاعر مصطفي الجارحي أحد أهم مبدعي جيلي من الشعراء والملحن المغني الذي رافقني كثيرا في حياتي أكرم مراد أبن النوبة الجميل، اغنية الشاعر الصعيدي المغترب والملحن الذي نتشارك في عام الميلاد وتمتد معرفتنا منذ التقينا في جامعة القاهرة منتصف الثمانينات وحتى الآن تبدأ بشطرة غنائية أتذكر أنها كانت أحد أغنيات برنامجي التليفزيوني (يوميات مقاتل) إنتاج التليفزيون المصري 1996، ورافقتني طوال النصف الثاني من شهر رمضان مع متابعة حلقات المسلسل.
مقاهي المثقفين في وسط القاهرة
الواقع أن العمل الدرامي قهوة المحطة قد مس جزءا من هذه الذكريات وتركت كلمتان المحطة والمقهي أثرا كبيرا، وفي حياة مبدعي مصر تأثير كبير لكلاهما فمثلا وسط القاهرة تمتلأ بمقاهي أرتبط بعضها بالحركة الأدبية والسياسية فيما قبل 1952 ارتبط الكثيرون بمقهي متاتيا التي أنشئت 1875 أسفل إحدى أشهر عمارات ميدان العتبة (الأوبرا سابقا) وأقترنت المقهى بأسماء أدباء مصر وساستها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ومن أشهر روادها عبد القادر المازني، المويلحي، حافظ إبراهيم، عبد العزيز البشري، وقد أنشد فيها بيرم التونسي العديد من الأشعار.
انتقل الثقل الثقافي والسياسي في سنوات ثورة 1919 إلى مقهى ريش في شارع سليمان باشا (طلعت حرب حاليا) وشهدت الأدوار التحتية للمقهى حركة مقاومة شعبية أثناء الثورة وطبع فيها منشورات المقاومة للاحتلال الإنجليزي، وقدمت السينما المصرية منذ أعوام فيلما عن مجموعة ريش بعنوان (كيرة والجن)، وما من مثقف مصري ومفكر خلال فترة الخمسينات والستينات إلا ارتبط بمقهى ريش والجميع لديه ذكريات ومنهم أمل دنقل، عبد الرحمن الأبنودي، سيد خميس، نجيب سرور، جابر عصفور، ونجيب محفوظ، واحتلت تلك الذكريات خلال تلك الفترة مساحات كثيرة من إبداعهم وحياتهم، وشهدت المقهي أيضا أياما كشعراء ومبدعين عرب الذين تواجدوا بمصر خلال تلك الفترة أهم هؤلاء شعراء الثورة الفلسطينية محمود درويش، وسميح القاسم وقد قدم أحمد فؤاد نجم في قصيدة (يعيش أهل بلدي) مقطع خاص عن مثقفي ريش وبعيدا عن النظرة السلبية لنجم تجاه أهل ريش إلا أن هذه المقطع يؤكد أهمية المقهى
يعيش المثقف على قهوة ريش
محفلط مزفلط كثير الكلام
عديم الممارسة
عدو الزحام
بكام كلمة فاضية
وكام اصطلاح
يفبرك حلول المشاكل قوام
يعيش المثقف
مع بداية الثمانينات انتقل الثقل إلى الجوار من ريش إلى مقهى زهرة البستان التي كانت أقل أسعارا وتتشابه مع جيلنا في ظروفه الاقتصادية وصارت البستان ملتقى المثقفين حتى اندلاع ثورة يناير 2011 ولا أنسى أنني ومجموعة من الاصدقاء شاهدنا بيان تنحى اللواء عمر سليمان بتنحي مبارك في السادسة والنصف مساء يوم 11 فبراير/ شباط وبعدها انفجرت القاهرة فرحا ورقصا وبشر.
التقى كل مبدعي مصر خلال الفترة قبل الثورة ولمدة ثلاثين عاما سابقة على البستان وارتبطت أعمالهم الإبداعية بها وهناك من خصص لها أجزاءا كبيرة في إبداعه ولم يكن غريبا أن تكون المقهي ملتقى لأعمال إبداعية بين مبدعين ومنتجي أعمالهم، وشهدت ميلاد قصائد شعر وروايات وأعاني لهذا الجيل، ومن أشهر هؤلاء المبدعين الكبار إبراهيم عبد المجيد، صنع الله إبراهيم، مكاوي سعيد، أيضا أحمد فؤاد نجم ذاته الذي انتقد مثقفي ريش.
ما من مبدع في جيل الثمانينات والتسعينات إلا وللبستان في وجدانه ذكريات، إبراهيم عبد الفتاح، حسن رياض، مصطفي الجارجي، أحمد مرزوق، عبد المنعم طه، التؤام أكرم وكرم مراد، الأصوات القوية مثل أحمد الطويلة، أدهم السعيد، عبى إسماعيل، أحمد إسماعيل، محمد عزت، وغيرهم من أصحاب المواهب التي حقق بعضهم والبعض الآخر كان مصيره لمؤمن الصاوي بطل قهوة المحطة، عشرات ممن أعرفهم وكثيرا ما التقينا على المقهى، وكانت هناك مقاهي عديده اضيفت للبستان في وسط المدنية منها المشربية، الندوة الثقافية، والأفتر أيت، والجريون، وكلها في محيط ريش والبستان.
قلبي حصان طاير جموح
خطى الزمان داس ع الجروح
يستنظرك رغم المرار
ويحن لك أنهار خضار
محطة ومقهى
لا أدري إلى أين ذهبت بي الكتابة وكنت أنوي كتابة عن معنى المقهى والمحطة في حياتنا وحياة أبطال العمل الدرامي (قهوة المحطة) لعبد الرحيم كمال وكان التساءل الذي أقلق عقلي هل يقصد عبد الرحيم المعنى الحرفي للمكان المقهى أوالمحطة؟ أم أنه يقصد معنى آخر فكل إنسان له محطته الخاصة التي تمثل نقطة انطلاقه في الحياة، ونحن دائما نقف عليها انتظارا لقطارنا الذي ينقلنا من نقظة في الحلم إلى نقطة آخرى، لا يرتبط هذا ببداية الحياة أو نهايتها وقد ظهر ذلك واضحا في أبطال العمل الذي أبداعه الثنائي عبد الرحيم كمال وإسلام خيري، وهناك مكان يحتمل انتظار الحلم سواء بدأ في القريب أو انتظرناه طويلا وغالبا هذا يحدث، وهذا المكان هو المقهي (قهوة المحطة) سواء كانت هذه المقهي منزلا، أو مقر عمل، أو غربة تعيش فيها، أو قرية صغيرة في جوف صعيد مصر أو دلتاها.
التعبير في عنوان العمل الدرامي (قهوة المحطة) هو تعبير عن أحلامنا جميعا المقهى هو محل انتظار تحقيق الحلم، والمحطة مكان ينطلق منه قطار كل واحد منا، وفي أحداث الدراما يستقر كل حالم فيها ينتظر قطاره ليحقق هدفه، مؤمن الصاوي ينتظر قطار نجوميته التي يغزو بها الساحة الفنية ودهاليزها الكثيرة ليقهر القاهرة ونجومها البلاستيك، محمد نجم ينتطر قطار المنتج السينمائي.
المعلم رياض صاحب المقهى ينتظر أبنه الحقيقي أن يكون مسؤولا يعتمد عليه، وينتظر أن يعترف أبنه المتبنى طارق بفضله عليه، طارق ينتظر قطارا يأخذه إلى أهله الحقيقيين، نعيم عم طارق الذي تسبب في فقدانه ينتطر قطار موت أخيه ليرثه ولا ينتظر إحسان منه،بينما جورجيت والدة طارق تنتظر بأمل كبير عودة أبنها المفقود وأدت الدور ببراعة الفنانة هالة صدقي وكونت ثنائي مع الفنان محمد الصاوي في حوار بالمشاعر ممتعا.
جولي العامل المسن ينتظر من يتبرع لأبنته المحكوم عليها بالموت مالم تجده، الفتاة تنتظر أباها الذي هرب من مسؤوليتها وأخواتها، ما من أحد قادم أو جالس على المقهى إلا وينتظر قطارا ينقله إلى عالمه الخاص ليحقق حلمه حتى الملك الذي أداه بتمكن وإبداع القدير رياض الخولى يأتي المقهي لينتظر ضحية يتحكم في مصيرها وحياتها مستغلا أوضاع اقتصادية واجتماعية بائسة، وقد جعل عبد الرحيم كمال من المقهى مقرا واستقرار لمعظم شخصيات العمل فهم يعملون، يأكلون يتسامرون، لا يغادرون المقهى على غير عادة مقاهى محطات القطار في أنحاء مصر التي هى مجرد أوقات عابرة، وكأن كمال يؤكد لنا فكرة أنها الوطن والمستقر.
ندهت لك ما سمعتنيش
وسمعتني ما فهمتنيش
حبيت تعيش بره المدار
مع أن لك في القلب دار
الشخصيات خارج المحطة لا تأتي إلا صدفة من استقرت حياتهم أو انتهت أحلامهم مثال خليفة والد شروق (ضياء عبد الخالق) العاشق الذي جعله من محبوبته ملك خاصا أراد أن يحبسها عن الناس والعالم أنتهي به المطاف بحلم ضائع هرب منه، واختفت وقتلها عابر آخر، فعاش خليفة حلمه الضائع بين أربع جدران، الصاوي والد مؤمن (علاء مرسي) استقرت حياته في أرضه ومنزله ولا يربطه بالمستقبل إلا حلم أبنه الذي قتل لا يريد سوى أن يدفن كبده وحلمه (أبنه) ويعرف قاتله، شروق حبيبة مؤمن جاءت المقهى مع حلمها مؤمن وعندما قتل حبست ذاتها في جدران المنزل بجوار والدها خليفة، الماضي والمستقبل الحب والحلم فيهما قتيلان، ويعيش أصحابه محبوسين بين الجدران المتهالكة.
جميعا نعيش تلك الحالة ما بين محطة ومقهى، لسنا غرباء عن هؤلاء وليس ضروريا أن يكون المكان هنا محدد بالمقهى والمحطة، فالمحطة هنا هي أي مكان ننطلق منه أو نتصور أنه مكان انطلاق، المقهى هو نقطة السكون اللحظي المؤقت الذي نعيش فيه على أمل وصول قطارنا في لحظة ما لينقلنا إلى الحلم، الحلم هو كل هدف للحياة وأمل فيها، هو السعي وبدونه نصبح موتى بالحياة نحبس أنفاسنا الباقية بين جدران متهالكة حالا ووضعا.
قلبك وطن ولا اغتراب
أنا كنت لك جناحين وريش
فتحت لك قلبي سراب
ندهت لك ما سمعتنيش.
ملاحظة : المقاطع الشعرية من قصيدة قلبي محطات انتظار للشاعر المصري مصطفى الجارجي.
المصدر : الجزيرة مباشر نت
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق