تابعت استعداد الهيئة الوطنية للإعلام لعقد مؤتمر مستقبل الدراما في مصر الذي جاء اقتراحه بعد نقد رئيس الجمهورية للدراما المصرية خلال أفطاره مع القوات المسلحة في رمضان الماضي، ومنذ هذا الإعلان للرئيس تحركت هئيات، جامعات، وأحزاب (سياسية) لتناقش وتبحث في شكوى الرئيس من الدراما المصرية وعرضها لأمراض مجتمعية مثل المخدرات، العلاقات المحرمة، وغيرها، وجاء هذا النقد بعد واحد من أفضل المواسم الدرامية المصرية خلال منذ عشر سنوات، فقد اعتدنا أن نرى عملين أو ثلاثة أعمال جيدين وسط إنتاج درامي يصل إلى 40 عملا سنويا أما هذا الموسم فقد وصل عدد الأعمال الجيدة ما يقرب من عشرة أعمال منها أولاد الشمس، قهوة المحطة، النص، أخواتي، لا الشمسية، تقابل حبيب، ظلم المصطبة، قلبي ومفتاحه، أضافة إلى بعض الأعمال من المواسم السابقة مثل كامل العدد، وجودو.
حماس مطلوب ولكن!
رغم الإنتاج الجيد للموسم الدرامي فلا مانع من النظر في أهمية عقد مؤتمر للدراما المصرية، الواقع أن مثل هذه المؤتمرات لا تخرج عن مزيد من الجلسات والمناقشات ثم إخراج أوراق تضاف إلى الآلاف التي خرجت من عشرات المؤتمرات للثقاقة والدراما والصناعة والزراعة وتطوير التعليم، والجامعات حدثت وتحدث وستحدث، وأتذكر تعليق صديقي الناقد الدرامي ورئيس تحرير مجلة مسرحنا محمد الروبي حين قال " مؤتمر لتطوير الدراما لقد قالوا هذا حين دعوا للحوار الوطني فذهبنا وقدمنا أوراق أين هي؟ هاتوا الأوراق التي قدمت للجان الحوار الوطني" هذا الرأي كتبه العديد من النقاد والمفكرين المهتمين بحال الثقافة والدراما المصرية، ولكن إذا كانت المؤتمرات والندوات واللجان تتم حسب تعليمات السيد المسؤول فلا مانع من عمل اللازم حتى ولو شكليا.
اثارني كثيرا هذا الحماس البادي في الصور للعاملين المكلفين من أبناء ماسبيرو في تجهيز مسرح ماسبيرو للمؤتمر، وهذا الحماس منهم أتوقعه فكلهم يتحمسون دائما لعمل أي أفكار تطرح عليهم ويبنون أحلام في مشاركتهم في أي عمل خاصة بعد ثماني سنوات عجاف من عمر الهيئة الوطنية للإعلام، وأبناء ماسيبرو يذكرونا بالفلاح المصري الذي يعمل في قيظ الصيف وتحت سقف الشمس وما ان تمر به نسمة صيفية إلا ويشعر كأنه ملك الدنيا، وأبناء ماسبيرو منذ سنوات تحت قيظ صيف شديد وبلا عمل حقيقي خاصة هؤلاء المؤهلين للأعمال الدرامية بعد غياب متعمد لجهات الإنتاج الدرامي التابعة للهيئة الوطنية للإعلام.
أوراق ومؤتمرات هل تجدي؟
السؤال الذي يطرح نفسه على صناع الدراما والمهتمين بها ماذا بعد؟ وهل المعضلة في هذه الأوراق والمؤتمرات انعقادها وكتابة توصيات يقول المخرج طاهر الكتبي "كفى مؤتمرات وكلام يقال منذ مائة عام،ماضى وحاضر ومستقبل الدراما المصرية والإعلام المصرى فى ماسبيرو وفى يد ماسبيرو ولابد أن يكون هو المتحكم والرقيب والمنتج ومن غير ماسبيرو المستقبل ضائع" طبعا الصديق منحاز إلى ماسبيرو بحسب الانتماء لكن في كلامه كثير من الحق فماسبيرو كان له اليد الطولي في الإنتاج الدرامي الجيد أكثر من ربع قرن من الزمان.
الجميع يتطلع إلى عودة مؤسسات للإنتاج ليس فقط الأعمال الدرامية الكبرى بل إلى أفلام التليفزيون، والسهرات الدرامية التي كانت تناقش أفكار أجتماعية راقية، لكن لا ننسى أيضا أن إنتاجا دراميا للقطاع الخاص مستواه كان يجاري أعمال ماسبيرو في عصره الذهبي، فقد كان القطاع الخاص يضع في حسابه أنه يدخل إلى المشاهد عبر بوابة ماسبيرو ومن خلال معايير وضعت بإحكام، ومثل الإنتاج الدرامي كان الإنتاج البرامجي والغنائي، فلم يكن مسموحا بأعمال تمس القيم الأسرية والاجتماعية وكانت معايير لجان الرقابة والمتابعة حاسمة في ذلك، وكان القطاع الخاص يهتم كثيرا بالدراما الكوميدية الخفيفة والتي يكتبهامؤلفين لديهم قدرات إبداعية وفكرية متميزة، وكذلك المخرجين وطواقم التمثيل والفنيين فكانت تخرج بمستوى يليق بالمجتمع المصري.
كان هناك تنافس في الأفكار الاقتصادية والسياسية والفكرية فبينما تجد في طرف أسامة أنور عكاشة، يسري الجندي، محفوظ عبد الرحمن يقدمون انحيازات فكرية ذات دلالة معينة، على الطرف الأخر في الأفكار نجد محمد جلال عبد القوى، وحيد حامد، لنين الرملي، منى نور الدين، مجدي صابر، أسماء لا تسمح المساحة بذكرهم جميعا ونغفل عن أسماء كبرى في الحصر، هذه الأسماء ومخرجيها هم نتاج عصر وثقافة وإدراك حقيقي لقيمة المنتج الفني والدرامي، أهم ما كان في هؤلاء أعتزازهم بما يقدمون، نتذكر أن هؤلاء توقفوا عن العمل حين توغل الإعلان على الدراما وكان موقفا صارما لا إعلان أثناء إذاعة أعمالهم بل قبل بداية العمل أو بعده أحتراما للمشاهد، وأخرين أوقفوا أعمالهم نتيجة إخلال بقواعد الأتفاق الفني، فحرية المبدع واستقلاله والأيمان بإنصاف المحيط بالإنتاج يجعله قادرا على الاستمرار أو التوقف وكان يؤمن أن ما يقدمه قيما وإبداعا يستحق الموقف، فهل نستطيع منح المبدعين تلك الحرية؟
الكاتب الدرامي هو مفتاح السر، وحريته أولى نقاط جودة عمله حينما يكتب المؤلف وفوقه تعليمات أو شاويش في يده عصا المنح والمنع لا يبدع ولا يستطيع أن يقدم منتجا جيدا، وهناك مثال واضح شاهدناه في الموسمين الآخيرين لكاتب واحد مميز عبد الرحيم كمال عملان أحدهم بناء على تعليمات والأخر بناء على إلهامه هما (الحشاشين) و(قهوة المحطة) ولك الحكم، فلا يمكن لجهة إنتاج واحدة أن تسيطر على كل الأعمال المنتجة، وخاصة إذا كان المسؤول عن هذا الإنتاج علاقته بالإبداع محدوده، فالموضوع لديه تنفيذ معلومات، فهل يستطيع مؤتمر أن يخلع عصا المنتج الوحيد وعقله عن الدراما ومستقبلها؟
ظواهر شكلية
ما حدث من اهتمام بما يسمى مستقبل الدراما المصرية هو اهتمام شكلي فكل من بحث في الموضوع تعمد تصدير شكوى الرئيس من مستوى الدراما وتعمد الإشادة بهذه الشكوى رغم أن بعضهم مشارك في إنتاجها، ويشير هذا أن ما يحدث وسيحدث بناء على تعليمات، ولا إبداع بتعليمات ومتى وضعتها أصبح منشور أو بيان، مثله مثل جرائد الأحزاب التي تصبح نشرة عائلية لرئيس الحزب، وكلاهما الإبداع الدرامي والإعلامي ليسوا نشرات أخبار للرئاسة أو الحزب، لذا فإن الناتج لن يعدو كونه ظاهرة شكلية ترسل بعد الصور والأوراق إلى القصر الجمهوري ومعها جملة تم تنفيذ تعليمات سيادتكم، ولكن هل يمكن لهذا المؤتمر أن يطالب بدعم اقتصادي كبير للإنتاج الدرامي؟ يعيد قواعد الأعمال بعيدا عن سطوة الإعلان، ينتج أعمال درامية تستطيع أن تهذب بعض إنتاج الشركات الخاصة (المرضي عنها) أن تمنح الشركات التي تنتج أعمالا جيدة فرصة للتواجد بعيدا عن أجور الفنانين والفنيين التي اصبحت أرقاما فلكية بفعل فاعل، أن تمنح فرصا لأراء وأفكار لا يوافق عليها المسؤول الكبير في الشركة المحتكرة؟
بمناسبة المؤتمر وشكوى القيادة السياسية أعلن أحمد المسلماني عن نية الهيئة الوطنية للإعلام بالشراكة مع مدينة الإنتاج الإعلامي (الهيئة صاحبة أكثر أسهم في رأس مال الشركة) عن إنتاج عملين دراميين أحدهما عن طلعت حرب، والأخر عن الطبيب المصري الكبير مجدي يعقوب، الأسم الأول يذكرني بحملة إعلانية ظهرت منذ سنوات بعنوان طلعت حرب راجع وهي الحملة التي تناقضت تماما مع أوضاع الصناعة الوطنية خلال السنوات السابقة، فطرح عمل درامي عن شخصية كبرى كطلعت حرب لا يتم في الفراغ بل لابد من محيط احتماعي سياسي يناسبه، ومثل النموذجان طلعت حرب ومجدي يعقوب أطروحات جيدة لكنها تبقى في فراغ اجتماعي وسياسي وعلمي، ويكون الموضوع أيضا ظاهرة شكلية وكأننا ننتج أعمالا تاريخية وكبيرة.
مفتاح الخروج من مآزق الدراما، الثقافة، الإبداع هو الحرية في التعبير والقدرة على وضع قواعد محددة في المنتج الدرامي، افساح المجال لهيئة لها قواعد أن تقدم إنتاجها، دعم اقتصادي كبير لقطاع الإنتاج بالهيئة الوطنية بقواعده الإنتاجية، صوت القاهرة، مدينة الإنتاج الإعلامي بعيدا عن سيطرة المتحدة للإنتاج الإعلامي والدرامي، تكريم كبار الفنانين في المؤتمر مهم ولكن الأهم مساحة لكبار المبدعين للإنتاج بحرية ودون تدخل المسؤول الكبير، الخروج بمجموعة قيم مطلوب زرعها في وجدان الأجيال الحالية والقادمة قيم أخلاقية وفكرية، فكل مجتمع مطالب بالتجذير لقيمه وأفكار ولو كره المتحررون.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق