د. أحمد مروان يكتب: أربيسك عكاشة وحسن النعماني


التريند اللي ظهر مؤخرًا والخاص بمسلسل "أرابيسك" كان عجيب اوي بصراحة!!

متعرفش ظهر ليه؟ أو أيه الهدف منه؟! أو بيقارن أيه بأيه؟!

لكنه في الحقيقة خلق فرصة كويسة علشان الناس تتكلم وتفتكر العمل الدرامي "المتفرد" ده.

وأدانا فرصة أكبر كي نتحدث، ولو بقدر بسيط عن عوالم دراما الكبير الراحل أسامة أنور عكاشة، أحد أباطرة الكتابة والتأليف في العصر الذهبي للدراما المصرية.

أرابيسك: أيام حسن النعماني، المسلسل الذي قال عنه كاتبه أسامة أنور عكاشة أنه أحد أحب الأعمال إلى قلبه .. والذي ظل يكتب فيه لعدد من السنين، حتى يُخرجه في الصورة التي أرادها ويرضى عنها.

 مسلسل أرابيسك، والذي يعتبره الكثير من مؤرخي ونقاد الدراما المصرية نقطة مفصلية في أعمال الراحل عكاشة، حيث هناك الأعمال التي صنعها قبله، ولها تقييمها ووزنها، والأعمال التي ظهرت بعده، ولها تقييم آخر .. بشكل آخر .. نقدر نقول أن الكبير أسامة أنور عكاشة وصل لذروة الإبداع الدرامي في العمل ده تحديدًا!

في البداية كده خلينا نقول أن العمل ده ببساطة مش مجرد سرد درامي للحارة المصرية، والحكايات والقصص التي تدور داخلها، بمختلف شخوصها ومعالمها، إطلاقًا .. الموضوع أكبر من كده بكتير .. إلى الحد الذي يعكس بشكل واضح مباشر طبيعة الفكر الفلسفي للراحل عكاشة نفسه

أسامة أنور عكاشة الذي درس علم النفس والاجتماع، وعمل لفترة كبيرة من حياته كإخصائي اجتماعي، يطلع على مشاكل الناس، ومحيط مجتمعهم، ويقدر المساعدة والعون، الذي هو من صميم ولُب وظيفته.

عكاشة الذي بدأ حياته الإبداعية ككاتب، وعليه وكما قال بنفسه في احد اللقاءات المسجلة، أنه ينظر إلى الكتابة الدرامية على أنها كتابة روائية إبداعية، يريدها أن تظهر كلون إبداعي جديد متفرد .. وليس مجرد صنع عمل درامي، وتنتهي قصته بنهاية حلقات هذا المسلسل!!

أرابيسك ببساطة هو يعمل يناقش الهوية المصرية، الضاربة في عمق جذور التاريخ، وكيف تبدل بها الحال، وتغير الزمان، ليستعرض كيف وصل بنا الحال مع هويتنا (أيام حسن النعماني)!

عمل يناقش الهوية المصرية من خلال حسن فتح الله النعماني (صلاح السعدني)، ذلك الشاب المصري، الذي كان من أبطال حرب أكتوبر، عبر وانتصر وعاد، ليستكمل مهنته وحرفته التي أتقنها وورثها عن آباءه وأجداده، مهنة صناعة "الأرابيسك" .. ولو تلاحظوا الرمزية الكبيرة في اختيار هذه المهنة تحديدًا !


الأرابيسك هو فن قديم، حرفة لا يتقنها سوى الفنان بالفطرة، الشخص الذي يجيد البناء الدقيق وصناعة المنمنمات، ليصفها ويقوم بتعشيقها في بعضها في شكل فني بديع، لتنتج في النهاية تحفة فنية، متماسكة، مستندة على بعضها البعض، تستمد كل قطعة منها القوة والسند من التي تلتها، فالقطعة الحديثة تظل قوية وثابتة طالما القطعة التي سبقتها في تحفة الأرابيسك هي الأخرى ظلت قوية وراسخة .. في تناغم وانسجام فريد، لا تبلى بفعل الزمن، ولكن بفعل الهدد والتخريب .. وفي ذلك أيضًا رمزية أخرى كبيرة!!

عاد حسن النعماني (حسن أرابيسك) ليجد أن صنعته وحرفته الأصيلة القديمة التراثية، والراسخة في أصل وبناء وتكوين حارته وبيئته، قد شاخت و "راحت" عليها بمفهوم العصر الحديث، وتغلب عليها شغل الاسطمبات الجاهزة، والبلاستيك والمستورد!!

أرابيسك ببساطة هي مقارنة بسيطة بين عصر كانت فيه الهوية الوطنية ثابتة متماسكة راسخة، تحفة فنية كقطعة الأرابيسك، وبين عصر أصبح فيه كل شيء عبارة عن اسطمبات بلاستيك مستوردة!!

علشان كده عكاشة أوضح بكل جلاء في عنوان العمل .. أرابيسك: أيام حسن النعماني، أي في عصر إضطراب الهوية، ومحاولة التمسك بها!!

حسن أرابيسك هو الشخصية المحورية التي قام عليها العمل، شخصية مصرية بسيطة، يمتلك حرفة قيمة، يعمل ويكد، ولكنه كأي إنسان، له مزايا وعيوب، وبجانب كونه مميزًا في مهنته، إلا أنه شخصية "مزاجية"، لا يعمل إلا إذا أراد هو ذلك، ليخرج معها كل ما هو قيم ونفيس.

عكاشة أراد أن يصنع شخصية لا كمال فيها، نرى فيها كل نجاحات وسقطات الإنسان، شخصية من الحارة المصرية، يواجه المشاكل والخطوب، التي تصرفه عن عمله، وعن أهله، إلا أنه سرعان ما يعود إلى فطرته الخيرة، عندما يستشعر ضرورة الرجوع إلى معدنه الأصلي، وكأنما عكاشة أراد أن يقول أن الإنسان المصري له معدن من ذهب، يظهر عندما تشتد الحاجة إليه، بالرغم من كل المحن والكبوات والمشاكل.

عكاشة أراد أن يُظهر أن الحارة المصرية الحقيقية  أفرادها يتميزون بالشهامة والرجولة والوقوف إلى جانب بعضهم في مشكلاتهم وأزماتهم، وأن شخصية كحسن أرابيسك يقف بجوار أهالي حيه حتى لو تسبب ذلك فى مشاكل كثيرة له!

حسن النعماني هو ذلك الشخص الذي يستشعر طريق الخير ويمشي فيه، هو الحادي كما وصفه الأستاذ وفائي (حسن حسني) في العمل، الحادي الذي يثق فيه الناس، ويمشون وراءه، ويعلمون أنه سوف يدلهم على بر الأمان .. بالرغم من هناته وعثراته، إلا أن الأصل والمعدن الطيب به غالب!

كل شخصية في العمل كانت مكتوبة وكأنها قطعة أرابيسك، من حيث التفاصيل والشكل والثبات!

الأستاذ وفائي (حسن حسني) المثقف، العالم بتاريخ بلاده، ويحمل نفسه مسؤولية الحفاظ على التراث، ويريد أن ينقل هذه المعرفة والأمانة إلى من يرى أنه أهل لها، حتى وإن خذله في بعض الأحيان، إلا أنه يعلم أن الخير به غالب!


وحتى حديثه عن الكرسي الأثري، فهو في الحقيقة رمزية أخرى كبيرة من رمزيات العمل، حيث تشير بكل وضوح إلى تراث الأجداد، البديع الأصيل المتماسك، الذي لا يقدر بمال، وكيف يريد أن يحافظ عليه، وينقل سره إلى من يراه الأنسب لذلك (حسن النعماني) .. قبل أن يسرقه ويبيعه هادمي التراث، ومحطمي الهوية، ومشوهي الأصالة والجمال، والذين لا هم لهم إلا كسب الأموال وتشويه هويتنا. هي رمزية كبيرة للمعركة المستعرة بين الأصالة والجمال والتراث وهويتنا المتماسكة الخالدة، وبين المسوخ مشوهي الهوية!!

تمامًا مثل معظم أطروحات عكاشة البديعة .. ورأيناها من قبل في أعمال مثل "الراية البيضا" و"ليالي الحلمية" و "أنا وأنت وبابا في المشمش" وغيرهم الكثير

عدولة (سهير المرشدي) الأخت التي تريد أن تربي اخوتها البنات وتحافظ عليهم، وتهتم لحالهم، حتى يصلوا إلى بر الأمان، حتى وإن كان ذلك على حساب نفسها وحياتها وسعادتها!

رمضان الخضري (المنتصر بالله) والذي يمثل ببساطة النموذج المعصرن للشخصية التي أصابها العطب، وأصبحت لا هم لها في الحياة إلا كسب الأموال، بأي طريقة كانت، تاركًا أصله وجذوره، وابتعد عن الهوية الأصلية، هو نموذج للشر الكبير، أو النقيض لشخصية حسن النعماني في العمل

دكتور برهان (كرم مطاوع) حيث الشخصية المصرية التي ارتحلت إلى بلاد الغرب، واكتسبت علم ومعرفة، ولكنه عاد مرة أخرى إلى بيئته وموطنه، لسبب أو آخر، لكنه عاد وأراد أن يحيا بقية عمره في بلاده وموطنه، وينقل العلم الذي اكتسبه إلى أهله وبني جلدته، حتى وإن حاوطته المغريات أو التهديدات 

توحيدة (هالة صدقي) الست المصرية الجدعة، بنت البلد

الأسطى عمارة (أبو بكر عزت) الرجل الكبير الحكيم، الأسطى الحرفي، الذي يصنع تحف الأرابيسك، في إشارة رمزية إلى تمسكه بالأصالة وما نشأ عليه، وهو ما أنعكس على طبيعته وشخصيته

في الواقع العمل يعج بالأبطال والنجوم الزاهرة، وكل واحد منهم أجاد في دوره وموقعه، وكأنما دوره تم تفصيله له، وكل شخصية عبرت بشكل رائع عن عبق الحارة المصرية، بشخوصها وأفرادها، بقيم وعادات أهل الحارة المصرية، في الحقيقة هذا العمل تستشعر وأنت تشاهده وكأنك ترى أفراد عائلتك، أو أفراد المنطقة التي تسكن بها، عمل تشعر وكأنه خلق ليعبر عن بيئة كلنا عشنا ونشأنا بها، وطبعًا المقصد من ذلك أنه كان عملاً موجهًا للطبقة المتوسطة بشكل رئيس.

حتى تترات العمل، التي كتبها الكبير الراحل سيد حجاب، وقام بتلحينها المبدع ذو البصيرة عمَّار الشريعي، وكأنها صيغت لتبث إلينا تلك الحالة والصراع القائم الذي عرضنا تفاصيله، حيث نجد مثلاً سيد حجاب يقول:

 دنياك سكك .. حافظ على مسلكك

وامسك في نفسك .. لا العلل تمسكك

وتقع في خية تملكك .. تهلكك

أهلك .. يا تِهلك .. ده أنت بالناس تكون

وكأنما هي رسالة مباشرة موجهة لحسن النعماني، تحثه على الثبات أثناء الصراع، والتمسك بما آمن به، وبقاءه بجانب أهله وناسه، حتى لا يهلك ويخسر الصراع في النهاية!!

وفي موضع آخر في التتر يقول:

إن درت ضهرك للزمن يتركك

لكن سنابك مهرته تفركك

وإن درت وشك للحياة تسبكك

والخير يجيك بالكوم وهمك يهون

نفس المعنى ونفس الرسالة!!

من ذكرياتي عن المسلسل وقت عرضه لأول مرة في رمضان الذي وافق عام 1994، أن الشوارع كانت بتبقى شبه فاضية وقت عرضه .. آه والله، بجانب أن كل بيت مصري تدخله في وقت عرض المسلسل، لازم تلاقيهم مشغلين مسلسل أرابيسك .. ذكريات متتنسيش أبدًا

عايز أقول في النهاية ان أسامة أنور عكاشة لم يكن يكتب مجرد أعمال درامية، تُعرض وتُشاهد، وينتهي بها الحال، وينساها الناس .. إطلاقًا .. عكاشة كان يكتب ملاحم إبداعية، عصارة فكر وفلسفة ورأي .. يناقش قضايا هامة .. يعرضها على الناس، ويُشركهم في همها، ليكونوا طرفًا في الصراع القائم!

عكاشة لم يكن له ورشة كتابة!! كان هو وحده وبذاته ورشة كتابة عملاقة بديعة متفردة

لم تكن له كتائب إلكترونية على مواقع السوشيال ميديا، تقوم بتوجيه آراء الناس، وتهاجم المخالف أو الناقد أو المعارض للعمل .. بل على العكس، كان رحمه الله وكما ذكر هو بنفسه من قبل في أحد اللقاءات التليفزيونية المسجلة، عندما سُأل عن توقعاته لرأي الناس لأحد اعماله الجديدة قبل عرضها، حيث قال:

دي مسألة لا يمكن التنبؤ بها، ولا يمكن قياسها، الناس هي اللي بتحكم

المذيعة: خايف؟

عكاشة: بالتأكيد، أنا هقولك، أثناء عرض أي عمل ليَّ، ببقى في حالة يرثى لها، حقيقةً ببقى متردد، لا بستمتع بالفرجة، ولا بقدر أتابع، لأن إحساسي أن الملايين دي كلها قاعدة بتتفرج، يا ترى.. أنا مزهقهقم ولا مبسوطين؟ يا ترى حاسين بضياع الوقت؟ يا ترى حاسين أن أنا دمي تقيل عليهم؟ بقولهم حاجة هم مش عايزين يسمعوها؟ مسألة رهيبة حقيقة. 

طيب هقولك حاجة أكتر من كده.. أنا بختار في يوم ويكون لي مسلسل بيتذاع، أنزل من البيت وأروح أقعد على قهوة بلدي في الناصرية، محدش يعرفني فيها، علشان أشوف ردود فعل الناس الطبيعية والتلقائية، وده هو الترمومتر اللي بحس أنه بيعبر عن نجاح أو فشل العمل.

أسامة أنور عكاشة رحمه الله كان مبدعًا موهوبًا بالفطرة .. خرج من رحم الطبقة المتوسطة التي خدمته في قراءته لثوابت المجتمع الذي يصنع أعماله لها، خدمته دراسته التي أرست في داخله النظرة النفسية والاجتماعية العميقة ببواطن الأمور والأحداث، طبيعة عمله قبل تفرغه للكتابة ساهمت بشكل رئيس في تفنيد واقع اجتماعي صنع من أجله جُل أعماله.

علشان كده عكاشة حفر اسمه في ذاكرة كل من شاهد صنيعه من الجماهير، وظلوا متذكرينه حتى وقتنا هذا، بل توجوه بعرَّاب الدراما الاجتماعية المصرية والعربية الأول بلا منازع، وأعظم حكَّاء عرفته الدراما حتى وقتنا هذا.

رحم الله عكاشة وكل المبدعين الذين على شاكلته، الذين أثروا وجداننا وعقولنا بكل ما هو طيب.

تعليقات