أن السياسة العدوانية لإسرائيل تجد جذورها في نشأة إسرائيل نفسها ، ورؤيتها لأهمية هذه السياسة ، وقد كشفت مذكرات موشيه شاريت التي تم نشرها رغم معارضة حكومة إسرائيل عن مواقف ومناورات بدت وقتها غامضة غير مفهومة ، ولعل من أهمها تلك الوثائق المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي ، وإبراز ماجاء في تلك الوثائق للرأي العام يكتسب أهمية كبري ، ليس من الزاوية التاريخية فحسب ، وإنما لمحاولة فهم منهج الآخر في التفكير والتخطيط ، لأن الفكر والسلوك في أغلبه يعتبر مكتسبات ميراثية ، تنتقل من جيل إلي جيل بحيث لا يطرأ عليها التغيير - إن حدث - إلا بتحول تاريخي جذري يهدم أسس هذا الفكر ، ويقوض أعمدة هذا التفكير.
صدرت " يوميات موشي شاريت " عام 1979 باللغة العبرية ، وقاومت إسرائيل بكافة الوسائل ترجمة هذا الكتاب باللغة الإنجليزية ، لدرجة أنها دفعت أسرة شاريت لمقاضاة الذين حاولوا ذلك ، وقامت بحصار الكتاب لمنع تسربه بكافة الوسائل والطرق .
لقد كان موشي شاريت مديراً للإدارة السياسية للوكالة اليهودية في الفترة من 1933 إلي 1948 ، ثم أصبح أول وزير لخارجية إسرائيل في الفترة من 1948 إلي 1956 ، كما تولي منصب رئيس الوزراء عند إعتكاف بن جوريون في صحراء النقب في الفترة من 1954 إلي 1955 .
وتجدر الإشارة إلي أن موشيه شاريت ولد عام 1894 في روسيا ، وكان والده من الموالين للحركة الصهيونية ، فهاجر بالأسرة إلي فلسطين عام 1906 ، حيث أستقروا في قرية عربية " عين سنيه " بالقرب من نابلس ، ولقد وصف موشيه تلك السنوات التي عاشها في تلك القرية بأنها أسعد سنوات حياته رغم أنها لم تتجاوز عامين ، حيث إئتلف مع سكانها وتعلم اللغة العربية ، ثم أنتقلت الأسرة عام 1908 للإستقرار في تل أبيب ، وفي بداية الحرب العالمية الأولي تم تجنيد موشيه في الجيش العثماني ، وبعد الحرب تخرج من مدرسة الإقتصاد في لندن ، وبعد ذلك بدأ نشاطه في التنظيم الصهيوني العمالي حيث كان أحد مؤسسي حزب العمال في ارض إسرائيل ( ماباي ) ، كما تولي منصب رئيس تحرير صحيفة دافار ، ثم تم تعيينه نائب مدير الإدارة السياسية للوكالة اليهودية ، ثم مديرها عام 1933 ، وكان رئيس الوكالة آنذاك هو ديفيد بن جوريون ، ثم تولي منصب وزير خارجية إسرائيل ورئيساً للوزراء لمدة عامين قبل إقصائه في يونيو 1956 ، ثم توفي عام 1965 .
وتشتمل يومياته علي حوالي 2400 صفحة تم توزيعها علي 8 مجلدات وتغطي الفترة من أكتوبر 1953 إلي نوفمبر 1956 ، حيث دون فيها مذكرات يومية تناولت كل شئ عام وخاص في حياته ، ولم تكن مدونة للنشر ولذلك يكتسب ما جاء فيها مصداقية عالية ، ولقد تعرض أبنه يعقوب لضغوط هائلة للحيلولة دون نشرها أو علي الأقل حذف بعض ما جاء فيها ، إلا أنه لم يستجب لهذه الضغوط وقام بنشرها بالفعل .
تبدأ هذه اليوميات في 9 أكتوبر 1953 ، في الفترة التي كان رئيس الوزراء بن جوريون قد أعلن عن نيته الإعتزال بحيث أصبح المرشح لخلافته هو موشيه شاريت ، وقد توجه بن جوريون للعيش في صحراء النقب بما بدا حينذاك وكأنه خلوة روحانية ، كدافع للآخرين لمواصلة النشاط في بناء المستوطنات ، والحقيقة أنه بينما كانت الدولة تنفق بسخاء لإعداد كوخ له في النقب بكل ما يتطلبه من وسائل إتصال وأمن وخلافه ، فأن الرجل كان يعرف ، بل وقال لبعض معاونيه أنه سيعود بعد عامين من هذه " الخلوة " ، فقد كانت هناك حملة تم إعدادها بمهارة لإستغلال هذه الخطوة المعنوية لرئيس الوزراء .
كان لابد من تأمين الدعم الإقتصادي والعسكري من الغرب ، وفي نفس الوقت منع أي تقارب بين العرب والغرب بأي وسيلة ممكنة ، ومن ضمن هذه الوسائل إثبات أن إسرائيل هي أفضل رهان عسكري للغرب في المنطقة ، دون إثارة أي شبهات حول نوايا إسرائيل التوسعية في الوقت الحالي حيث لم يتم التمهيد لها بعد .
ج إنتهكت إسرائيل أمن كل الدول المجاورة ، بل وبررت بعض التصرفات غير الإنسانية وغير الأخلاقية تجاه دول وشعوب تلك الدول ، وقد وجدت آذاناً صاغية وألسنة حاضرة تدافع عن إنتهاكاتها للقانون الدولي وحقوق الإنسان بحجة " أمن إسرائيل " ، ولا زالت نفس الحجة تقدم بجرأة غريبة علي موائد المفاوضات مع الدول العربية التي تسعي إلي تحقيق السلام والإستقرار بل وتسعي إلي تحقيق " الأمن " الذي أنتهكته إسرائيل مرة ومرات متعمدة - كما سنري - كي تحقق أهدافها التوسعية في المنطقة كما سيشرح لنا ذلك أول وزراء خارجيتها : موشي شاريت .
أن سياسة إسرائيل خلال الفترة التي تغطيها يوميات شاريت ، كانت تهدف بشكل أساسي إلي القيام بأعمال تعرضية لإثارة جيرانها العرب لضمان إستمرار حالة العداء والتوتر بما يوفر لها المبرر اللازم لعمل عسكري مسلح تحصل به علي مزيد من الأراضي . وقد أطلق شاريت علي هذه السياسة إسم " الإرهاب المقدس " ( Sacred Terrorism ) ، وأوضح بشكل جلي أسطورة " إحتياجات إسرائيل الأمنية " ، وما يسمي " التهديد العربي " .
تكشف اليوميات أن المؤسسة السياسية العسكرية الإسرائيلية لم تعتقد أبداً أن العرب يهددون وجودها ، بل علي العكس كانت تلك المؤسسة تعمل علي زيادة المشاكل للإنظمة العربية بعد حرب 1948 ، فلقد كانت تلك الأنظمة تتفادي بقدر الإمكان الإشتباك المسلح مع إسرائيل ، إلا أنها في نفس الوقت ولكي تحافظ علي إستمرارها فقد كان عليها أن تثبت أمام الرأي العام العربي أنها مستعدة للرد علي السياسات العدوانية لإسرائيل ، وبمعني آخر فأن ما يسمي التهديد العربي لم يكن سوي " إختراع إسرائيلي " لم تستطع الإنظمة العربية لأسباب داخلية أن تنكره رغم أنها كانت تخشي من القدرة العسكرية الإسرائيلية .
وكانت إسرائيل - طبقاً لليوميات - تسعي إلي دفع الدول العربية إلي مواجهات عسكرية ، بهدف إكتساب المزيد من الأراضي ، وتحويل إسرائيل إلي دولة عظمي في المنطقة ، ولتحقيق ذلك فأن إسرائيل كانت تعمد إلي عمليات عسكرية بعضها محدود وبعضها علي مجال واسع ضد السكان المدنيين عبر خطوط الهدنة ، خاصة في الأراضي الفلسطينية بالضفة الغربية وقطاع غزة ، وذلك لإرهاب هؤلاء السكان ولخلق حالة توتر دائمة ، وكذلك كانت إسرائيل تقوم بعمليات عسكرية ضد المنشآت العسكرية العربية علي الحدود لخفض الروح المعنوية للجيوش العربية ولزعزعة أنظمة الحكم ، كما أنها كانت تقوم بعمليات إرهاب سرية في عمق الدول العربية بهدف التجسس وزرع الخوف والتوتر وتنفيذ بعض الأعمال التخريبية .
لذلك ظل العديدون من الكتاب والمؤرخين - حتي هذه اللحظة - يعتقدون أن تأميم قناة السويس كان هو السبب الرئيسي لحرب 1956 ، إلا أن يوميات شاريت تعطينا زاوية أخري هامة في هذا الموضوع ، فقد كانت إسرائيل تخطط لحرب شاملة ضد مصر بهدف إكتساب أراضي في قطاع غزة وسيناء منذ عام 1953 ، وأتفق المخططون آنذاك علي أن الظروف السياسية سوف تكون موائمة خلال فترة ثلاثة أعوام ، بل كانت الغارة التي نفذت علي غزة في فبراير 1955 مخططة بحيث تكون مقدمة لحرب شاملة ، وهي الحرب التي كان يعارضها وزير الخارجية الإسرائيلي ( موشي شاريت ) ، وأدت معارضته إلي تصفيته سياسياً بواسطة أنصار بن جوريون ، أي أنه سواء شاركت بريطانيا وفرنسا أم لم تشارك في حرب السويس ، فأن إسرائيل كانت سوف تمضي في خططها بالعدوان علي مصر .
كما إعتبر العديد من المحللين أن إحتلال إسرائيل للضفة الغربية وغزة عام 1967 كان إجراءاً وقائياً في مواجهة ما يسمي بالتهديد العربي ، إلا أن يوميات شاريت - مرة أخري - تؤكد أن خطط إحتلال الضفة الغربية وغزة كانت موجودة منذ بداية الخمسينات ، من خلال تنفيذ عمليات إثارة وتهديد لدفع المنطقة إلي توتر يبيح لإسرائيل تنفيذ تلك الخطط .
ومن العجيب أن العمليات العسكرية غير الإنسانية التي تنفذها إسرائيل في لبنان وغزة حتي اليوم ، يراها العديدون مبررة في ضوء ما يسمي " بإحتياجات إسرائيل الأمنية " ، رغم أن يوميات شاريت تؤكد أن بن جوريون في عام 1954 أعد خطط لجعل لبنان دولة مسيحية ، من خلال برنامج تفصيلي لتفتيت هذه الدولة .
ولهذه الأسباب رفضت إسرائيل دائماً أية ترتيبات أمنية مع جيرانها لأن ذلك سوف يحرمها من إفتعال الذرائع لتنفيذ عملياتها العسكرية والإرهابية في إطار مخططها الأوسع في التوسع ، ولم يكن هناك من هو أكثر صراحة من دايان الذي قال يوم 26 مايو 1955 : " أن ذلك يساعد في المحافظة علي أعلي درجات التوتر بين سكاننا والجيش ، وبالتالي فأننا لكي ندفع بشبابنا إلي صحراء النقب ، يجب علينا أن نصيح دائماً أنها في خطر " .
أن المؤسسة العسكرية السياسية الإسرائيلية لم تخدع العالم والعرب فقط ، وإنما خدعت الشعب الإسرائيلي ( واليهود في العالم كله ) بأسطورة " التهديد العربي " ، فقد دفع الإسرائيليون أيضاً من دمائهم وحياتهم وإستقرارهم ثمناً باهظاً لخطط أعدها قادتهم بسرية وتكتم لم تكن تهدف إلي رفع مستوي شعبهم أو تحقيق أمنه بشكل حقيقي ، وإنما طمعاً في مزيد من الأراضي في شبق مجنون وبأساليب شيطانية كما كشفت يوميات شاريت ، كما أن هذه الأساليب أضرت بالحالة النفسية والعقلية للشعب وهناك أمثلة عديدة علي ذلك يكفي أن ننقل منها ما نشرته صحيفة دافار في عددها الصادر يوم 9 يونيو 1979 ، حيث نستمع إلي شهادة أحد الجنود الإسرائيليين الذين شاركوا في الهجوم علي قرية فلسطينية عام 1948 :
" لقد قتلنا حوالي 80 إلي 100 عربي من النساء والأطفال ، وكنا نقتل الأطفال بواسطة كسر جماجمهم بالعصا ، ولم يكن هناك بيت واحد يخلو من الجثث ، فقد تم تجميع الرجال والنساء في منازل بدون طعام أو ماء ، بعد ذلك تم تفجير هذه المنازل بمن فيها بالديناميت ، ورأيت أحد القادة يصدر أوامره لجندي كي يدخل امرأتين إلي منزل سيتم تدميره ، بينما جندي آخر كان يفاخر بأنه أغتصب امرأة عربية ثم أطلق عليها النار ، ثم امرأة أخري تحمل طفلها الوليد تم تكليفها بتنظيف المكان لمدة يومين ثم أطلقوا عليها وعلي طفلها النار .. كلما كان عدد العرب الباقين أقل ، كلما كان ذلك أفضل " ..
هذه الشهادة التي قدمها ذلك الجندي السابق بكل برود ، تعكس خطورة ما فعلته المؤسسة العسكرية السياسية في المجتمع الإسرائيلي من تشويه نفسي حتي تحقق ما ذكره دايان من حفز للشباب الإسرائيلي .
جزء من كتابي – تحت الطبع – " دبلوماسية السويس "
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق