علي أبو هميلة يكتب : "1970 يوميات عبد الناصر عام الرحيل "


لم اتصور عندما كتبت مقال عن الأديب المصري الكبير أحد مبدعي الستينات في حياتنا الأدبية والثقافية أن يسأل أحد قراءه : من صنع الله إبراهيم؟ وهو محق في سؤاله وشعرت بتقصير أني لم أقدم بعضا من تاريخه وأعماله، فقد غفلت ما نعانيه من حالة ثقافية خلال عشرات السنين من إهمال للإبداع الأدبي والفكريا، فالأغلبية لا تعرف كثيرين ساهموا فيها أمثال حمال حمدان، عبد الوهاب المسيري، عصمت سيف الدولة في الحياة العلمية والفكرية العربية، وغيرهم لا يعرفون إبراهيم أصلان، محمد مستجاب، إبراهيم عبد المجيد،بهاء طاهر، محمد المخزنجي، هالة البدري، وغيرهم العشرات من مبدعي أجيال الستينات والسبعينات، لذا كان طبيعيا الإجابة على سؤال.

من صنع الله إبراهيم؟ 

إبراهيم أحد أهم كتاب الرواية التسيجلية (الوثائقية) في مصر والوطن العربي إذ يمكننا اعتبار أن أكثر من 60% من روايات ال 16 حالة وثائقية ما بين الأحوال في مصر والوطن العربي وسرد ذاتي لحياته الشخصية وبعض الشخصيات التي إثرت في حياته، ولد صنع الله في القاهرة 1937، وكان لوالده تأثير كبير عليه وهو ما أورده في الصفحات الأولى لرواياته يوميات الواحات، فقد كان يشجعه على القراءة دوما بل أن أولى محاولاته للكتابة وعمره 12 عاما كان نتاج الروايات البوليسية التي أحضرها له والده.

مع دخول عامه الخامس عشر كانت مصر تموج بتيارات سياسية مختلفة لكنه تأثر بالفكر اليساري والتحق بالحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) وكون مع سنوات الجامعة ومن خلالها ومحيطه السكني علاقات مع أغلب أصحاب الفكري اليساري الشيوعي، وكان هذا سببا في اعتقاله ودخوله السجن كانت أطول مدة السنوات الخمس في الواحات التي قال أنها شكلت بنأءه الفكري. 

من أشهر أعماله الأدبية تلك الرائحة، اللجنة، ذات، برلين 69، 1967، بيروت بيروت، شرف، أمريكانلي، ذات، نجمة أغسطس، وبلغت أعماله المترجمة 3 أعمال، درس الحقوق في مصر، عمل بوكالة الأنباء المصرية، سافر برلين في 1968 ليعمل في وكالة الأنباء الألمانية، ومكث ثلاث سنوات، انتقل بعدها إلى روسيا ثلاث سنوات ودرس هنا السينما، قبل أن يعود إلى مصر ليتفرغ للكتابة 1975، عاني كثيرا في عصر السادات من نشر كتبه وكان يبحث في كل بلاد الوطن العربي عن ناشر لكتبه، رصد هذا في عدة روايات من أعماله، ولم ينفتح الباب كما قال إلا أعقاب ثورة يناير التي قال عنها "أسفرت هذه الثورة — رغم فشلها في تحقيق أهدافها — عن نتيجة فورية وهي اتساع مساحة التعبري بشكل غير مسبوق" 

حصل صنع الله على عدد من الجوائز منها جائزة ابن رشد للفكر الحر 2004، وكفاكيس للأدب 2017، ورفض استلام جائزة الرواية العربية في مصر 2003 التي يمنحها المجلس الأعلي للثقافة أعتراضا على أجواء المناخ الثقافي في مصر. 

برلين الشيوعية

الرصد الوثائقي الذي يقترب من الفيلم التسجيلي يتجلى أيضا في روايته (برلين 69) التي ذهب إليها كصحفي في وكالة أنباء إلمانيا الشرقية لمدة ثلاثة سنوات بدأت عام 1968، سبقها رحلة قصيرة إلى بيروت في ذات العام، الرواية تتجول بنا إلى عالم الكتلة الشرقية والاتحاد السوفيتي قبل أن يسقط سور برلين بعدها بعشرين عاما.

يرصد صنع الله إبراهيم سنوات أوروبا الشرقية والأفكار الشيوعية واليسارية، محاطا هذا بحرب فيتنام التي استمرت 19 عاما من 1956 حتى 1975، والصراع مع الولايات المتحدة الأمريكية في عالم كان يموج بثوارت في كل أرجائه، ومن خلال عمله في وكالة أنباء ولقاءه مع شخصيات أثرت في تاريخ ألمانيا والعالم كان الرصد الوثائقي في رواية (برلين) ولا يغفل صنع الله أن يضع في كل التجارب نقده لها والأسباب التي أدت إلى نتائجها التي كانت كارثية في بعض الأحيان، وفي كل هذا لا ينسى أنه دارس للسينما فيرصد بعين الوثائقي. 

قبل الذهاب إلى الرواية الأخيرة عن عام وفاة عبد الناصر نجد روايتين كانا مثالا واضحا لليوميات أو الرواية التسجيلية هما (67) والرواية الأخرى (نجمة أغسطس) في الرواية الأولى رصد كامل لعام هزيمة يونيو/حزيران 1967 كما هو واضح من العنوان وفيها رصد كامل لمقدمات الهزيمة من خلال شخصيات تلعب دورا رئيسيا في الحياة السياسية المصرية، إضافة إلى ما يمكن أن نقول الحالة الإنسانية والاجتماعية لشخصيات مؤثرة ثقافيا وسياسيا في المجتمع طباع شخصية، أطماع، أحلام أكبر من القدرات.
يرصد دائما صنع الله هذه النفس البشرية التي يستقطبها الهوى، تمويلات، وأهداف لا تتلاقى مع أهداف الأمة، وفي نجمة أغسطس رحلة إلى أسوان أثناء بناء السد العالي الذي يراه أهم إنجاز لعبد الناصر بعد تأميم قناة السويس، يذهب الرواي إلى أسوان لعمل وثائقي عن بناة السد وهناك يلتقي شخصيات مهندسين وعمال وشخصيات درامية، أحداث أجتماعية وفي الخلفية دائما الأخبار عبر الإذاعة والتليفزيون، والصحف معركتان في وقت واحد السد العالي وحرب الاستنزاف في محاولات للحاق بما فقد في العام السابق. 

عام وفاة الزعيم 

قمة روايات صنع الله إبراهيم الوثائقية كانت في روايته الأخيرة الصادرة عام 2019 عن عام رحيل عبد الناصر (1970) وهو العام وأسم الرواية وهنا يرصد حالة مصر والوطن العربي من خلال الأحداث شبه اليومية فيهما ويربط بين تلك الأحداث ويوميات جمال عبد الناصر في عامه الأخير، تلحظ في اليوميات تداخل الصوت بين الرئيس، والكاتب فكأنه يعكس رؤيته للشخصية من خلال صوته، فهناك مزج بين ناصر وصنع الله الناقد المحب، يعدد أخطاء، صراع نفسي، رؤية للشخصيات المحيطة من خلال نقدها وتصرف عبد الناصر تجاه هذه الشخصيات، يوميات بدت كشف حساب للرئيس التي لا تزال تؤثر في أمتها سلبا وإيجابا، مع التركيز على الأزمة الرئيسية في سنوات ما قبل الرحيل الثلاثة وهي حرب الاستنزاف وما يجري على الجبهة. 

 صنع الله لا يغفل التغيرات الاجتماعية والثقافية، ولا يتغافل عن خلل بدأ يزحف في المجتمع من خلال السينما والإعلانات يبدأ روايته بقول " يوم مجدِك الحقيقي سنة ٥٦، عندما تَصدَّرَت صورتُك صحفَ العالَم، واهتزَّت أركان الإمبراطورية التي لا يغيب عنها الشمس، يومَ أعلنتَ تأميمَ القناة التي فقدَت مصرُ في حفرها ١٢٠ ألف مصري، وصارت تُدرُّ ٣٥ مليون جنيه، تأخذ مصر منها مليونًا واحدًا. أذهَلتَ العالَم بمُقامرة أفلتَّ منها بأعجوبة" وينهي الرواية الوثيقة بجملة "خذلت نفسك وخذلتنا، ثم ذهبت، وذهبت معك قدرات الأمة وأمالها إلى حين" لا أدرى من خذل من وهل فعلا خذلنا الرجل أم نحن من فعلنا؟

ما بين ضربة البداية وجملة النهاية كان عام الرحيل أسوء ما فيه الأيام السابقة على الوفاة حينما كان الدم العربي يسيل بالأيدي العربية في الأردن وكان أيلول الأسود علامة من علامات انهيار عالم عربي كان يحلم بالوحدة والعدالة والقوة وتحرير الأرض فكانت الحروب بعده حروبا عربية/ عربية، كان أيضا ختام عمر عبد الناصر القصير بعدما انهكه سريان الدم العربي في القمة التي وقع فيها الملك حسين وياسر عرفات وثيقة أيقاف القتال في مخيمات الفلسطنيين في الأردن.

ليلتها كانت السيدة تحية كاظم تجلس عند قدمي الرئيس تبكي الرجل الذي كان حلمها قبل أن يصبح حلم أمة، وفي الخلفية يصلي حسين الشافعي ويبكي الأبناء وكبار رجال الدولة ويصرخ وزير الحربية محمد فوزي "لا يمكن أصنعوا شيئا، حاولوا مرة أخرى) وفي زواية يقف أنور السادات بكلمات يظنها البعض آيات قرانية، هكذا كتب صنع الله إبراهيم نهاية روايته عن رحيل جمال عبد الناصر الذي سجنه ورغم ذلك كان يقدره ويقدر تجربته التي كانت معادلا لحياته ولكن ظل صنع الله يقدم لنا أبداع ذو مذاق خاص. 

تعليقات