معصوم مرزوق يكتب : تشرشل واغتصاب فلسطين


تحتفل إسرائيل في شهر مايو من كل عام بذكري تأسيسها ، وهي نفس ذكري النكبة الفلسطينية، وكلما تعمق المرء في جذور المحنة الفلسطينية ، تبين أنه لم تكن هناك قوة يمكنها أن تحول دون ضياع فلسطين وتشريد الفلسطينيين ، فمن أي زاوية تنظر تجد أن المحنة كانت حتمية ، ولعل ذلك ما يدركه الجميع الآن سواء من خلال التحليل الدقيق للوضع العربي ، أو من دراسة تاريخ الحركة الصهيونية .

إلا أن الوثائق التي بدأ الكشف عنها مؤخراً تسلط أضواء علي جوانب أخري عديدة لم يكن أحد علي إلمام كاف بها ، ورغم أنها تؤكد نفس النتيجة الحتمية، إلا أنها توضح مدي الإنحطاط الذي تهاوت إليه بعض الشخصيات البارزة في تاريخ محنة الشعب الفلسطيني، وخاصة تلك التي أتاح لها الظرف التاريخي أن تلعب دوراً مركزياً في خلق الكيان الإسرائيلي .

أن بلفور الذي تنهال عليه اللعنات صباحاً ومساءً لم يكن سوي هامش ضئيل في كتاب المآساة ، أما الذي كتب أغلب سطورها بحرص ودأب فهو شخصية أخري تتمتع باحترام هائل في العالم كله ، بل وأزعم أنه يتمتع بنفس الإحترام في العالم العربي، رغم أن الوثائق تشير إلي أنه كان يحتقر العرب ويصفهم بأوصاف متدنية لا تجدر أن تصدر عن شخص يمتلك أدني قدر من ثقافة، هذه الشخصية بلغ عشقها للصهيونية حدوداً جاوزت عشق العديد من اليهود أنفسهم لها، ووقف بصلابة ولمدة تصل إلي نصف قرن إلي جانب الحركة الصهيونية حتي تأسست دولة إسرائيل، واستمر يساندها إلي آخر نفس في حياته .

أنه " ونستون تشرشل "رئيس وزراء بريطانيا العظمي أثناء الحرب العالمية الثانية، والذي كان يفاخر بأنه صهيوني قديم" ويعد دوره في دعم الحركة الصهيونية من أخطر الأدوار، لدرجة أن حاييم وايزمان وبن جوريون وغيرهما من قادة هذه الحركة قد أجمعوا بأنه لولا الدور الذي قام به تشرشل لما كان ممكناً أن تنشأ دولة إسرائيل .

لم ينكر تشرشل في مذكراته أن والده كان لديه علاقات خاصة بالعديد من أثرياء اليهود وخاصة عائلة روتشيلد، وهذه العائلة هي التي قامت بتمويل رئيس وزراء بريطاني يهودي آخر وهو دزائيلي في شراء أسهم مصر في قناة السويس، وقد كشفت الوثائق أن تلك العائلات اليهودية الثرية قد تولت ونستون الصغير بالرعاية، وتدخلت لمساعدته مالياً أكثر من مرة ، كما أسهمت في تلميعه للصعود إلي قمة المجتمع الإنجليزي قبل الحرب العالمية الأولي، والأمثلة علي ذلك قد أصبحت كثيرة ربما تم تناولها في مقالات أخري ، ولكن ما أريد أن أوضحه هو أن تلك الرعاية اليهودية للأسرة قد امتدت من آباء ونستون واستمرت إلي أولاده وأحفاده، ومن المعروف أن سارة إبنة تشرشل قد تزوجت من يهودي ( كان قد سبق زواجه مرتين ) .

ربما لا يعنينا كثيراً الإختيارات العاطفية أو الإنحرافات الوظيفية لهذا الرجل ، علماً بأنه تكرر إتهامه في بريطانيا نفسها بأنه " يتربح من علاقاته مع اليهود " فذلك أمر يخصه ويخص بلاده ، ولكن المشكلة هي أن تلك الإختيارات والإنحرافات قد أثرت بشكل مآساوي علي حياة الملايين في الشرق الأوسط، لأن ذلك الرجل تولي أخطر المناصب في بريطانيا الإمبراطورية في توقيت مفصلي وحرج اشتمل علي حربين عالمتين ، الأولي منها شهدت أنتهاء الإمبراطورية العثمانية ، وبدء الإنتداب البريطاني علي فلسطين، بينما شهدت الثانية ما أطلق عليه "الهولوكوست" وقد كان تشرشل في الحالتين أكبر مروج للفكرة الصهيونية، وأهم فاعل في تثبيت التسلل الصهيوني وتوسيعه في فلسطين .

ستكشف الوثائق البريطانية ومراسلات تشرشل عن الدور الذي لعبه حين أصدر الكتاب الأبيض عام 1922 الذي ينظم عملية الهجرة اليهودية إلي فلسطين أو بمعني آخر يشجعها، ولقد عرف هذه الكتاب بأنه "كتاب تشرشل" كما تكشف مراسلاته ولقاءاته مع حاييم وايزمان خلال نفس الفترة عن الخطة التي وضعها تشرشل لإبتلاع فلسطين التاريخية بالكامل تدريجياً ، بل أنه وصل إلي حد إقتراح إضافة مناطق أخري مثل ليبيا وأريتريا كي تكون تابعة لدولة إسرائيل التي ستنشأ علي أنقاض دولة فلسطين .

سوف يتضح أيضاً وقوف تشرشل بصلابة ضد الكتاب الأبيض الثاني الذي صدر عن الحكومة البريطانية وبأغلبية ساحقة لمجلس العموم البريطاني عام 1939، والذي يحدد عدد المهاجرين اليهود بحيث تستمر الأغلبية العربية ، وتقوم بتقرير مصيرها خلال أربعة أعوام ، فقد رأي تشرشل أن ذلك سيؤدي بالتبعية إلي موت الفكرة الصهيونية، لأن الدولة الجديدة لن تسمح بمهاجرين جدد ، لذلك فقد استمات في معارضة هذا الكتاب، رغم إقراره بأن ذلك غير دستوري لأن ذلك الكتاب قد صار قانوناً بعد تصديق مجلس العموم عليه .

سنجد أن تشرشل رغم مشاغله أثناء أحداث الحرب العالمية الثانية ، والقنابل التي كانت تتساقط علي لندن ، فأنه كان لا يزال يقاوم الكتاب الأبيض الأخير ، ويحاول المرة تلو المرة أن يقنع مجلس الوزراء بالموافقة علي تشكيل الكتيبة اليهودية التي تحمل علم صهيون وضمها لقوات الحلفاء ، ورغم معارضة المجلس الشديدة ، بل ورغم أن أحد القادة "ويفل" قد حذره من تأثير ذلك علي حلفاء بريطانيا في العالم الإسلامي والعربي ، إلا أن تعليقه كان "سيمر كل شيئ علي حاله ولن تجد كلباً ينبح معترضاً" وفي النهاية، وقبل أن تضع الحرب أوزارها أستطاع بالفعل أن يقنع المجلس بضم القوة اليهودية إلي قوات الحلفاء التي نجحت في النزول علي شواطئ إيطاليا .

حتي عندما أشتدت الحركات اليهودية الإرهابية ( مثل أرجون وشتيرن ) وزاد عدد القتلي من الضباط الأنجليز في فلسطين، فأن تشرشل وقف في مجلس العموم كي يبرر هذه الأعمال الإرهابية في مواجهة غضب عارم في المجلس ، ولعل الكلمة التي ألقاها آنذاك (بعد حادثة تدمير فندق الملك داود في القدس) تعد من أبلغ الكلمات التي عبرت عن دفاعه الأعمي عن الحركة الصهيونية .

سوف نجد تشرشل أثناء  الحرب العالمية الثانية يتبني بقوة ما تردد عن وجود مذابح تقوم بها قوات النازي في أوروبا، ويركز بشكل خاص علي ما يتعرض له اليهود، رغم أن مراكز الإعتقال النازية كانت تضم آلاف من جميع الجنسيات والأديان ، وعند مراجعة خطابات تشرشل أثناء هذه الفترة سيتبين بوضوح أنه كان مصدر المبالغة في الأرقام، بل أنه طالب بتعويض اليهود وكأن لا أحد غيرهم قد تعرض للكارثة النازية ، وواصل إرسال التحذيرات للقادة النازيين بأنهم لن يفلتوا من العقاب إذا استمروا في قتل اليهود، ولقد سأله أحد النواب البريطانيين وقتها ساخراً لماذا لا يطالب أيضاً بتعويض سكان الجزيرة البريطانية عن الأضرار التي حاقت بهم نتيجة للقصف الألماني ؟! 

بعد الحرب ، وحين أدرك تشرشل زوال شمس الإمبراطورية البريطانية ، فأنه نصح وايزمان أن يركز علي أمريكا، بل قام بنفسه بإرسال خطابات إلي كل من روزفلت ومن بعده ترومان كي يحثهما علي دعم الحركة الصهيونية، وقد كان في البداية يعارض تقسيم فلسطين ، لأنه كان يري أنها يجب أن تؤول بالكامل لليهود ، وقد كان يفاخر وهو يحدث أصدقاءه من أثرياء اليهود بأنه مهد الطريق بأن قام بعد الحرب العالمية الأولي بتقليد الملك عبد الله إمارة شرق الأرض، ولكنه وبعد أن أصبح خارج الحكم بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية سلم بأنه من المستحيل أن يقاوم فكرة التقسيم ، واعتبرها مرحلة مبدأية يمكن بعدها لدولة إسرائيل الوليدة أن تواصل قضم ما تبقي من فلسطين وربما ما هو أكثر .

لذلك سوف نجده يسخر ممن اعترض علي تمدد إسرائيل خارج حدود التقسيم واستيلاءها علي النقب ، ويردد بأن قواتها المسلحة هي التي قامت بذلك واكتسبت الأرض !! 

ولقد ظل ونستون تشرشل مخلصاً في ولائه للصهيونية حتي النهاية ، وكان يتدخل لمساعدة إسرائيل حتي وهو خارج السلطة، مثلما تشير الوثائق إلي ما فعله أثناء الإعتداء الثلاثي علي مصر عام 1956، ولقد مات وهو يناهز تسعين عاماً من عمره، ولا ندري ما الذي كان يمكن أن يفعله أيضاً إذا عاش أكثر من ذلك ..

هذا المقال ليس إلا إشارة شديدة الإختصار تلقي بعض الضوء علي الدور الذي لعبه ذلك الرجل في مآساة الشرق الأوسط ، ولكنني لا أظن أنها كافية لإيضاح عمق وخطورة هذا الدور الذي استمر لمدة تزيد علي نصف قرن، لأن قراءة ما أتيح من مذكرات ورسائل ووثائق بريطانية رسمية حول هذا الدور تؤكد هوس مرضي لهذا الشخص بالفكرة الصهيونية، وأوكد لكم أن تلك القراءة مؤلمة ، ولكنها ضرورية كي نفهم بعض ما يدور حولنا الآن .. ولا أظن أنه في النهاية قد خدم اليهود ، فقد تسبب في إستمرار نزيف الدم حتي الآن في الأرض المقدسة، في حين تؤكد كل الشواهد علي إفلاس النظرية الصهيونية وإقتراب موعد أفولها.

تعليقات