"صوت مذيع البرنامج الفلسطيني الذي يذاع منذ ثلاثين عاما يطمن أهله انه بخير ويطلب منهم تطمينه : نحن بخير طمنونا عنكم.
أشلاء أسرة عربي كانت تلعب الورق، طفل قتيل ما زال يمسك بورقة لعب في يده، شظايا القذيفة التي سقطت عليهم تختلط ببقايا الأجسام.
"أن قلوبكم أيها الإسرائيليون لا يجب أن تتألم وأنتم تقتلون عدوكم ولا ينبغي طالما أننا بعد لم نقض على ما يسنى بالحضارة العربية" مناحم بيجن.
بيروت بيروت
الصورة السابقة رسمها المبدع صنع الله إبراهيم في روايته (بيروت بيروت) من المخيمات الفلسطينية في لبنان في 1980 تحت الإدارة اللبنانية في فترة من أحلك فترات القضية الفلسطينية ولبنان، هل اختلف الصورة التي رسمها الأديب المصري الكبير منذ 45 عاما عن الصور القادمة الآن من غزة ومخيماتها، ومخيمات الضفة الغربية تحت إدارة السلطة الفلسطينية، هل لاحظتم خلافا بين كلمات مناحم بيجين صاحب السلام المزعوم، ونتنياهو اليميني المتطرف الذي يحكم الكيان الصهيوني، لا فرق طالما لم يقضوا بعد على الحضارة العربية، ولا عزاء لمن لا يقرأ.
لا أتذكر بالضبط متى وقعت في يدي النسخة الورقية لرواية صنع الله إبراهيم (بيروت بيروت) هل كان في سنوات الجامعة في النصف الأخير من الثمانينات، أو بعد ذلك بسنوات، كانت الرواية بداية تعارفي بهذا الروائي المبدع ثم اقتنيت عدة روايات له منها تلك الرائحة، اللجنة، ولم اتمكن في السنوات الأخيرة من اقتناء رواياته التي نشرت حديثا، وأهمها بالنسبة لي روايته عن عام رحيل جمال عبد الناصر (1970) ومنذ مرض الكاتب الكبير ودخوله إلى معهد ناصر انتويت الكتابة عنه فما زالت بعض المشاهد من روايته (بيروت بيروت) لا تغادر ذاكرتي، وكان أن سبقني الزميل عمرو بدر بكتابة مقال عنه هنا، ونويت تأخير مقالي حتى وجدت نسخة كاملة لأعماله على الانترنت ومجانية وتلك كانت مفأجاة قمت بتنزيل المجموعة كاملة.
قرأت رواية (بيروت بيروت) عدة مرات من قبل وها أنا أعود إليها ومعها باقي أعمال صنع الله إبراهيم وشدني هذا المزج بين عناوين الصحف وبين البناء الدرامي للأحداث، وتظهر الرواية كفيلم تسجيلي يحيط بأحداثه صوت المذيع التليفزيوني وعناوين الجرائد التي يتصفحها الكاتب (الرواي) والأحداث الأدبية، وتسجل وقائع أحداث الحرب الأهلية في لبنان، وتنتهي بالاجتياح الصهيوني لبيروت 1982.
روايات وثائقية
يغوص صنع الله إبراهيم في بيروت يقدم حياتها السياسية والثقافية، والاجتماعية، يرسم شخصياتها السياسية والثقافية ما بين كل أطياف الحياة السياسية، يكشف نوعيات من الساسة والمثقفين يقدم صورة بريشة أقتربت منهم وعايشتهم من خلال رحلته للبحث عن ناشر لروايته الجديدة، وعمل فيلم تسجيلي عن بيروت وأحداث في عام مفصلي من أعوامها، فقد انتهت الحرب الأهلية أعلاميا منذ ثلاث سنوات، ولكن ظل الصراع في بيروت (لبنان) بعدها سنوات حتى استقرت الأمور، وبينما يهاجم الصهاينة بيروت ولبنان كان الرئيس المصري يفتتح سفارة للكيان في القاهرة.
"يا أهالي أجهور، أنا سعد إدريس حلاوة، منكم وفلاح زيكم بأزرع أرضي بإيدي وعرقي. ما سبتهاش ورحت أبيع الجاموسة، أو أرهن البيت واستلف بالفايظ عشان أشتري تذكرة سفر، أو عقد عمل مزور للعمل في ليبيا أو السعودية .. النهارده ٢٦ فبراير ١٩٨٠ ،النهارده بالذات السادات فتح لإسرائيل سفارة في الدقي ورفعوا عليهاَّ علمهم"
يرصد صنع إبراهيم رد الفعل الشعبي لافتتاح السفارة الصهيونية في رواية أخرى له (ذات) من خلال عملية اغتيال سعد إدريس حلاوة أبن قرية أجهور في وسط الدلتا يكتب الحدث في خلفية لأحداث الرواية التي نشرت 1992 وتناولت أحداث مصر من فترة الخمسينات والمد القومي والثوري حتى سنوات الانفتاح الاقتصادي على يد فاتح أول سفارة صهيونية على النيل، ثم سنوات حكم مبارك حتى زلزال أكتوبر 1992.
الرواية عن الفتاة ذات التي عاشت على عشق والدها لجمال عبد الناصر، وتخرجت من الجامعة مع سنوات السادات وعاشت مع أبنائها خلال عصر مبارك، ويرصد العلاقة بين (ذات) و حبيبها ثم مع زوجها (عبد الحميد) هي صورة من علاقة مصر والرؤساء الثلاثة فالحلم الذي غادر مع حبيبها الأول كان ناصريا، ثم علاقة الزواج وأعباءه كان في المرحلة الساداتية والمباركية، ويرصد صنع الله أحوال مصر أيضا من خلال الصحف والإذاعة والتليفزيون، إغاني عبد الحليم صوت المرحلة رومانسيا وعاطفيا، الأفلام في السينما، إعلانات الإذاعة والتليفزيون في وثائقية متجددة لدى صنع الله إبراهيم.
في سجن الواحات
يبدو تأثير دراسة السينما التي درسها صنع الله خلال رحلته إلى موسكو 1971 إلى 1974واضحا في معظم أعماله التي بلغت 16 عملا بدءا من روايته (يوميات الواحات) التي يرصد فيها جزءا من طفولته وصباه، وتأثير والده الذي يعتبره المدرسة التي تربى فيها بما قدمه له من كتب ودعم لقراءاته، وبتمتعه بالحس الأدبي والسردي، ويتنقل صنع الله في الرواية إلى يوميات سجنه لمدة خمس سنوات في سجن الواحات 1959- 1964 التي قضاها في أثناء حكم جمال عبد الناصر في المرحلة التي اعتقل فيها أغلب الشيوعيين في مصر
في (يوميات الواحات) يرصد الروائي أحداث الفترة من خلال شخصيات سياسية وثقافية مصرية حقيقية وتأثير هذه الفترة التي يقول عنها أنها شكلت صنع الله إبراهيم، رصد الحالة المصرية هنا بإحداثها التاريخية والثقافية من خلال عناوين الصحف والأخبار التي تنشر والشخصيات الموجودة في سجن الواحات.
شهدت الفترة سجن كبار المثقفين والسياسيين المنتمين للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) وفيها سجن فؤاد حداد، سيد خميس، حسن فؤاد، عبد الرحمن الخميسي، الممثل علي الشريف، إسماعيل صبري عبد الله الأقتصادي اليساري الشهير، سيد حجاب، عبد الرحمن الأبنودي، وغيرهم كثيرون، ورغم أنه سجن في عهد عبد الناصر ثلاث مرات كانت المرة الأولى والثانية في عام 1953، والثالثة الموثقة في يوميات الواحات إلا أن موقفه من عبد الناصر ظل إيجايبا حتى اليوم، وهذا الموقف موثق أيضا لدى أغلب الأسماء التي شاركت صنع في سجن الواحات، فهم جميعا كانوا ينتقدون التجربة بمنطق البحث عن الأفضل والأكمل.
المصدر : الجزيرة مباشر نت
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق