أحمد زكي يكتب : لماذا لا يموت عبد الناصر؟


أنا لو كنت شوفت عبد الناصر يوم 27 سبتمبر/ 1970 وقولت له إنك حتموت بكرة.. على الأرجح كان مش حيستغرب ويركز على إنه يقضي يوم واحد مع أسرته قبل الوفاة. لكن لو قولت له إن الناس حتفضل تختلف عليه سلباً وإيجاباً، حباً وكراهية، هوساً وولعاً لحد سنة 1980، يعني بعد عشر سنين من وفاته، عبد الناصر كان حيستغرب جداً..!

أما وإننا في 2025 وعبد الناصر مات من 55 سنة وهو لسة شاغل خيال الناس ونقاشاتهم بهذه الحدة وبهذا القدر، فدة أمر مش بسيط ومش سهل ومحتاج تأمل أعمق من الإكليشيهات بتاعة: لأنه كان أعظم حلم مر في هذه الأمة العربية من المحيط إلى الخليج.. أو لأن آثاره الكارثية لاتزال ماثلة أمامنا ومكملة معانا.. في الحقيقة دي محاولات ساذجة جداً لتفسير ليه هو لايزال يحظى بهذا القدر من الجدل والصخب والنقاش لحد النهاردة وكأنه عايش وبيحكم..

صديق عزيز ومثقف شافني، فبيقولي: شوفت صاحبك يا سيدي.. فرديت عليه: قولت آه أنا متابع فعلا الدوشة الكبيرة اللي حاصلة.. 

فرد هذا الصديق صاحب الحس الأدبي: صاحبك طلع لسة عايش.. بل طلع عايش أكتر من الميتين اللي بيحكمونا دلوقتي!

فهو عبد الناصر دلوقتي بيفكرني بعاشور الناجي.. عاشور الكبير اللي بدأ الأسطورة وبعدين اختفى.

نجيب محفوظ قال عن عاشور الناجي: "قلبي يحدِّثني بأنه سيظهر فجأةً كما اختفى فجأة."

وبعدها بعد أسطر بيكتب نجيب محفوظ: "ومضت الأيام لا تحمل بصيصًا من أمل. تسير بطيئةً ثقيلةً مسربلةً بالكآبة. ويئس كل قلب من أن يرى من جديد عاشور الناجي وهو يمضي بهيكله العملاق، يكبح المتجبِّرين ويرعى الكادحين وينشر التقوى والأمان.

وترتدي فُلة الحِداد، ويبكي شمس بلا حساب، ويغرق الأعوان في الحزن والتفكير. وقد اعتقد قوم أن درويش غدر بالرجل في مجلس السماع، ثم سحبه إلى القرافة فدفنه في قبر مجهول. وأصرَّ الناس رغم اليأس على أنه سيرجع ذات يوم هازئًا من كافة الظنون. ومن شدة الحزن تصوَّر آخرون أن اختفاءه كرامة من كرامات الأولياء."

فهو نجيب محفوظ لم يقصد بعاشور الناجي (فيما أظن) أن يكون رمزاً لعبد الناصر.. ولكن الفكرة هنا إن عبد الناصر هو زعيم سياسي له ناس بتحبه ومفتونة به وله ناس بتكرهه ولا تقبل أن تصاحب سيرته سوى اللعنات، وهذا الزعيم مات كما مات من قبله ومات من بعده وكما سوف يموت الجميع، والله هو الحي الذي لا يموت.

لكن من يكرهونه لا يعتقدون أن عبد الناصر قد مات، ويقينهم أنه لايزال حياً أقوى من يقين من يحبون الرجل!

فبعد أن مات عبد الناصر كان من المفترض أن تموت معه تجربته وتموت معه سيرته ويطويها النسيان.. ممكن دة كان يحصل على سنة ١٩٧٥ وقد احتفل الناس بالنصر وأصبح الآن للوطن درعٌ وسيف.. أو كان ممكن يطويه النسيان في 1995 وقد رحل منذ ربع قرن وأصبحنا في عالم تهيمن عليه قوة وحيدة وهي الولايات المتحدة.. وطبعاً كان ممكن يحصل دة في 2005 وقد شارك الناس في أول انتخابات تعددية في تاريخ الجمهورية المصرية، وساعتها يبقى كتر خير الدنيا أوي إن الراجل دة اتنسى بعد 30 سنة من وفاته!

لكن في 2025، وبعد خمسة وخمسين سنة، يتم استدعاء سيرته والخناق حول نهجه ومحاولة استخدام ما قاله (وإن كان مجتزءاً) في اللحظة المأزومة اللي بيعيشها العالم العربي، فدة أمر يستحق التأمل والتفكير، والتحرر من الاسطمبات المحفوظة.

ممكن حد يقول إن الخناقة الحامية على عبد الناصر بعد 55 سنة من رحيله دليل إن المجتمع العربي كله مأزوم.. وهذا صحيح. بس ليه الخناقة دي محصلتش مع حد تاني من الزعامات العربية السابقة أو الحالية، واللي النهاردة بيتم التعامل معها زي تعامل الصينيين مع ماو تسي تونغ، باعتباره رمز له ما له ومش ضروري نعرف اللي عليه!

مهم إدراك إن مكانة عبد الناصر تؤكدها شدة الكراهية وسخونتها، مش بس مظاهر الحب.. يعني هو لما تجتهد إنك تشوه شخص وتحاول أن تلحق به كل اللعنات والهزائم والشتائم بعد 55 سنة من رحيله، يبقى في حاجة هنا مش طبيعية!

لمن يكرهون عبد الناصر، فيه وصفة لطيفة جداً للتخلص منه.. أن لا تذكروه بالخير أو بالشر.. وعلفكرة أن لا تذكروه بالشر هو الأهم.. لأن لما تركز مع شخصية ماتت من 55 سنة بالشر، فأنت بتساعد الجميع على تذكره ومحاولة التفكير فيه بشكل مختلف عن هدفك!

أنا كنت أعتقد إن عبد الناصر لسة محل خلاف وجدل بسبب أهمية تجربته، بصرف النظر عن طريقة النظر إليها ومعايير الحكم عليها.. لكن دلوقتي في ظني إن عبد الناصر لايزال حاضراً في النقاش العام بهذا القدر من الحدة والعنف وكأنه لسة عايش، بسبب إن الأسئلة اللي حاول أن يتعامل معها لسة هي نفس الأسئلة اللي بتواجه العالم العربي النهاردة.. 

هل المقاومة صح؟ طب المقاومة ازاي؟ طب ينفع المقاومة مع ما هو متاح أم إن مفيش داعي للمقاومة؟ طب هل ينفع السلام؟ طب عن أي سلام نتحدث وما هو السلام الذي نريد؟ طب هل اللي إيده في المية زي اللي إيده في النار؟

فهو في 2025 بتظهر مقاطع تسجيل لصوت عبد الناصر في جلسة خاصة وتقلب الدنيا ويبدأ الناس في الخناق.. ها هو الخائن المستسلم صاحب الحل الاستسلامي الانهزامي.. لا بالعكس.. هذا هو صوت الرجل العاقل العقلاني الذي تعلم من درس 1967.. بل إنه المقاوم الذي يستعد للحرب والقتال ولكنه سئم وطهق من مزايدات مناضلي الحناجر الملتهبة وزعامات الإذاعات الحارقة...

هو في الحقيقة إحنا مش بنتخانق مع عبد الناصر، إحنا بنتخانق مع أنفسنا.. بنتحول للدون كيخوته وهو لابس الدرع الصفيح وماسك السيف الخشب ورايح يقتل طواحين الهواء!

نجيب محفوظ بيختم رحلته مع عاشور الناجي:

"لقد اختفى عاشور الناجي.


ولكن الزمن لن يتوقَّف وما ينبغي له

تعليقات