كغيرها من الروايات المشابهة في المجالات الأمنية والاستخباراتية، تأتي رواية الاستحواذ على ملفات الجاسوس إيلي كوهين كي تثير من الأسئلة ما هو أكثر بكثير من الإجابات.
علينا إذًا التزام الحذر، خاصةً أن المصدر الوحيد المتاح لها حتى الآن هو آخر مصدر يمكن الثقة به.
فأولًا، يزعم هذا المصدر أنه استحوذ على الملفات بعد عملية اختراق سرية قام بها رجاله بمساعدة من يصفه ب "جهاز استخبارات أجنبي".
وثانيًا، من المفترض أن هذا حدث بشكل "ملائم" من حيث التوقيت مع الذكرى الستين لإعدام الجاسوس الذي تغلغل في القيادة السورية تحت اسم كامل أمين ثابت.
لا مجال للتخمين العشوائي في أي شيء، خاصةً في أمور من هذا النوع. لكن الدارسين الأكاديميين يعلمون أن معظم الدراسات البحثية تبدأ عادةً بفرضية hypothesis مبنية على ملاحظات مبدئية بهدف التحقق من مدى صدقيتها، وكذلك العمل الصحفي الاستقصائي.
بالنظر إلى هاتين الملاحظتين وإلى السياق الأشمل لما آلت إليه الأمور في سوريا وإلى الظرف الراهن المتعلق بالقوى المجاورة وبما يبين من استراتيجية القيادة السورية الحالية حتى الآن، سيكون مقبولًا علميًا ومهنيًا وضع فرضية مؤداها وصول الملفات إلى أرملة الجاسوس بأقل مجهود يُذكر إن لم يكن بمبادرة ضمن هدف رفع العقوبات. هذا ليس حكمًا، بل هو فرضية علمية مهنية قابلة للتأكيد كما هي قابلة للنفي بين يدي دارس أو صحفي جاد.
الأهم من هذا هو تصريحات مدير الم.و-سا.د التي يوحي فيها بأن جاسوسهم سقط بالصدفة بعد التقاط إحدى إشاراته اللاسلكية. الجزء الأخير فقط صحيح لكن القصة الحقيقية أعقد من هذا.
في المراحل الأولى من برنامج "سري للغاية" عام 1998 قمنا بالتحقيق في هذا الأمر ووصلنا إلى أن الأمر بدأ في الواقع من جاسوس مصري كان يعيش بين ظهرانيهم. وبينما كان يتسامر مع إحداهن حاولت أن تثير إعجابه فعرضت عليه صورًا لها ولعائلتها الممتدة العريقة. من بين الصور كلها توقف هذا الجاسوس المصري لدى صورة عائلية تجمع رجلًا وامرأة وسبعة أطفال. تفحص الصورة مليًا ثم سألها: "من هذا الرجل؟" ردت عليه بفخر: "هذا زوج أختي، إيلي، إيلي كوهين، وهو رجل أعمال ناجح في الأرجنتين".
كان كوهين قد ولد في الإسكندرية عام 1924 وكان ولاؤه لأبناء جلدته، كما اتضح لاحقًا، يفوق بكثير ولاءه للأرض التي ولد عليها وعاش بين أهلها وكبر على خيرها.
في عام 1954 قبضت السلطات المصرية عليه ضمن عصابة يه.و-د.ية بعد قيامها بما عرف باسم "العملية سوزانا"، ولاحقًا باسم "فضيحة لاڤون". كان الهدف ضرب العلاقات المصرية بأمريكا وبريطانيا عن طريق استهداف مصالح الدولتين في مصر. فشلت العملية فشلًا ذريعًا وأدين مرتكبوها، لكن المحكمة لم تجد ما يكفي لإدانة كوهين.
بعدها حصل على تأشيرة خروج إلى إيطاليا بلا عودة، ومنها إلى دولته الحقيقية فالتقطوه ودربوه ثم أرسلوه إلى الأرجنتين تحت اسم كامل أمين ثابت فانخرط بين العرب هناك تمهيدًا لزرعه في سوريا أوائل الستينات.
بقية القصة معروفة، لكن الذي لم يكن معروفًا لكثيرين، ولم يكن لأربابه أن يعترفوا به، هو أن الذي وقعت هذه الصورة أمام عينيه باعتباره إيلي كوهين كان يعلم أنها لا يمكن إلا أن تكون لكامل أمين ثابت، فأبرق المعلومة فورًا إلى القاهرة. وحين وصل بها وفد أمني مصري رفيع المستوى إلى دمشق بدأت خطة الإيقاع به.
أما الجاسوس المصري فلم يكن سوى رفعت الجمال، أو جاك بيتون، أو رأفت الهجان.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق