كان ولاة مصر ، قد استأجروا مجموعة كبيرة من ضباط الجيش الأمريكي بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية ، وتزاحموا للحصول علي عقد عمل في الجيش المصري ، بعد أن أصبحوا عاطلين عن العمل بسبب انتهاء الحرب في أمريكا .
كان حكام مصر كرماء كعادتهم ، فأجزلوا لهم في العطاء ، وأنزلوهم منازل كريمة بأجور كبيرة ، كان هؤلاء الحكام يقتطعونها من عرق الفلاح المصري الصبور ..
من بينهم كان الجنرال الأمريكي ستون الذي أحتل منصب رئيس أركان حرب الجيش المصري في زمن الخديو إسماعيل وتوفيق ، وكان موجوداً في الأسكندرية أثناء الهجوم البريطاني ، وقد كتب مذكراته أثناء الهجوم البريطاني الذي أسفر عن هزيمة جيش عرابي واحتلال مصر ، فقال :
"كنت أعد نفسي للعودة إلي القاهرة بالقطار يوم 8 يوليو (1882) إلا أنني اكتشف إستحالة ذلك حيث بدت الأمور معقدة ، ولم أستطع أن أرسل تلغرافاً لأسرتي كي تغادر القاهرة لأن ذلك قد يسبب لهم رعباً إضافياً ، ولقد شعرت أن الأدميرال البريطاني سوف يقصف الأسكندرية في النهاية ، رغم أنني تشككت أن بإمكانه قصف ميناء كبير سبق أن أعلن أنه دخله " كصديق " ، بل ومن المؤكد أنه لن يفعل ذلك قبل أن يعطي تحذيراً واضحاً ومبكراً حتي يستطيع آلاف الأوربيين الذين يعيشون في المدن الداخلية ( الذين لم يتم تحذيرهم ) أن يغادروا البلاد ، لأنه كان يجب أن يعرف جيداً ومعه السلطات البريطانية ، أن قصف الأسكندرية بواسطة أي أسطول أوروبي سوف يؤدي إلي قيام السكان الغاضبين بالإنتقام من كل الأوروبيين الذين في البلاد أياً كانت جنسياتهم .
لدهشتي ، تم إعطاء إنذار لمدة 24 ساعة فقط ، وتم توجيهه في وقت متأخر من بعد ظهر يوم 9 يوليو ، بعد أن غادر القاهرة آخر قطار متوجهاً إلي الأسكندرية ، وفي نفس الوقت تم نصح جميع السفن الحربية الأجنبية وكل السفن الأخري التي تحمل اللاجئين أن تغادر الميناء ظهر يوم 10 يوليو .
أن الإهمال الوحشي من البريطانيين لحياة مواطني الجنسيات الأخري سبب لي ولآلاف آخرين إنزعاج مخيف ، كما تسبب في مقتل العديد من الأوربيين ( فرنسيين ، ألمان ، نمساويين ، إيطاليين ) ،وكان علي أن أقرر في لحظة ماهي أفضل طريقة لتأمين سلامة زوجتي وبناتي وهم علي مسافة 120 ميل في داخل البلاد ، لم يكن هناك قطار متجه إلي القاهرة إلا في الثامنة صباح يوم 10 يوليو ، وهو القطار الذي يصل للأسكندرية الساعة الثالثة بعد الظهر ، أي بعد ثلاث ساعات من مغادرة السفن التي تحمل اللاجئين ( الأجانب الفارين من الحرب ) ، لقد تخيلت أربع سيدات يصارعن في محطة السكك الحديدية في القاهرة للحصول علي أماكن ، بين زحام الأوروبيين المذعورين ، ليس لهن إلا فرصة ضئيلة ، وحتي إذا نجحن في الحصول علي أماكن في عربات القطار ، فمن المحتمل بشكل كبير أن يتم إخلاءهن في أي نقطة في الطريق كي يحل محلهن الجنود المتجهون إلي المدينة المهددة . وحتي إذا نجحوا في الوصول إلي الأسكندرية فأن السفن لن تكون هناك لإستقبالهم ، ولن أستطيع أن أجد مكاناً آمناً لهن في مدينة توشك أن تنهال عليها القذائف .
أسرعت إلي مكتب تلغراف وأرسلت رسالة لضابط كبير في رئاسة الأركان المصرية بالقاهرة وأخبرته بأن البريطانيين علي وشك الهجوم، وأنا مستمر في موقعي، وأترك مصير أسرتي لشرف رئاسة الأركان . لقد كان وضعاً يائساً ، ولكن قراري كان سليماً ، لأن العائلات التي غادرت القاهرة في الثامنة صباحاً يوم 10 يوليو ، وصلت متأخرة فلم تستطع الصعود إلي السفن ، وتعرضت لرعب عمليات القصف.
في صباح اليوم التالي ، أخذت إبني ( وكان موجوداً معي ) إلي ظهر المدمرة لانكستر ، وبقلب مملوء بالقلق عدت لآداء دوري إلي جانب الخديو توفيق، بكل ما أستطعت من الهدوء الممكن . وخلال يوم 9 يوليو ، امتلأ قصر رأس التين بمسئولين أوربيين علي مستو عال ، منهم مدير البريد البريطاني ، ومدير الجمارك البريطاني ، والموظفين الكبار للإدارات المختلفة ، الذين كانوا يتناولون في هدوء طعام العشاء في مدينة مهددة بالدمار ، ويتبادلون الرأي في سخرية حول الأثر المحتمل لتمرين المدافع الثقيل المتوقع من الأسطول البريطاني ، لم يكونوا بالطبع يفكرون أو يهتمون بمصير النساء والأطفال من جنسيات أخري غير البريطانيين في الداخل ، حيث تم إبعاد كافة الرعايا البريطانيين .
في يوم 10 يوليو ، لم يتبق حول الخديو سوي خمس مسئولين غربيين في قصره – أمريكي وأربعة إيطاليين - ، كنت أنا واحداً ، وإيطالي يتولي منصب أدميرال ، وإيطالي آخر طبيب معاليه ، وآخر سكرتيره ، والأخير رئيس البروتوكول . هؤلاء الخمسة ومعهم مجموعة قليلة من الأتراك ، والأرمن ، وضباط ومسئولين مصريين ، كل هؤلاء يمثلون بطانة الخديو خلال القصف والأيام الثلاثة التالية ، التي تم خلالها محاصرة قصر الرملة بالقوات التي أرسلت لإحراقه وإطلاق النار علي كل من يحاول الفرار .
بعد ذلك جاء الإحتلال البريطاني للأسكندرية ، ثم الحملة ضد عرابي ، وخلال هذه الحملة قمت بكل ما يمكنني عمله لمساعدة حلفاء الخديو، وأنا أعرف في ذلك الوقت أن ذلك هو واجبي ، إلا أن تنفيذ هذا الواجب يوماً بيوم وفعلاً بفعل ، سوف يضيف بالضرورة للمخاطر التي تحيط بأسرتي في عزلتها . لأنه في موقعي إلي جوار الخديو ، فأن كل فعل كان معروفاً ومثيراً لأعداء الخديو .
لقد استمر هذا الوضع بالنسبة لي وعائلتي حتي يوم 8 أغسطس ، عندما سعدت بلقائهم أخيراً علي متن سفينة " الدقهلية " في ميناء بور سعيد .
هذه النهاية السعيدة يرجع الفضل فيها إلي القائد وايتهيد في الأسطول الأمريكي ، الذي لم يشأ أن يتحمل مسئولية أن تكون أسرة أمريكية في خطر ، ووافق بسرعة علي طلبي أن يدخل قناة السويس ، وفي الإسماعيلية طالب السلطات المصرية أن تحضر الأسرة هناك وتسلم له علي متن السفينة الأمريكية " كوينباوج " ، وتم إتخاذ اللازم لإخبار القائد عرابي الذي تصرف بمرؤة من نفسه حتي قبل أن يصله الطلب من الحكومة الأمريكية ، وأنقذ أسرتي .
لو كان أدميرال سيمور ( القائد البريطاني ) قد أعطي إنذاراً لمدة 48 ساعة قبل قصف المدينة ، لكان قد أعفي نفسه من المسئولية التاريخية الخطيرة التي يتحملها الآن بالتسبب في قتل رجال ونساء وأطفال أوربيين ، أولئك الذين قتلوا في المدن الداخلية ، وكذلك مسئولية مقتل مئات المصريين من النساء والأطفال الذين ماتوا بسبب هذا القصف ، وبسبب الهروب الفوضوي من المدينة تحت القصف .
أثناء ما يسمي " بمذبحة " 11 يونيو 1882 في الأسكندرية ، تم ضرب رجال أوربيين بواسطة الأهالي الغاضبين ، إلا أنهم لم يتعرضوا لأي طفل أو امرأة أجنبية ، بينما وعلي العكس من ذلك ، فأنه أثناء القصف المسيحي للأسكندرية ، فأن أعداداً من النساء والأطفال المصريين تم قتلهم ، حيث قام أزواجهن وأخوتهن وآبائهن بأخذ ثأرهن في وقت لاحق من الأوربيين الأبرياء المساكين في طنطا والمحلة الكبري".
تلك كانت شهادة الأب الجنرال الأمريكي المرتزق في مصر ، وهي التي تعطي ملمحاً بسيطاً عن وحشية الغازي البريطاني الذي قصف الأسكندرية علي رؤوس أهلها من المدنيين ، بعكس ما قام به القائد المصري البطل " أحمد عرابي " الذي بادر بإنقاذ أسرة ذلك الجنرال الأمريكي ، الذي تكشف شهادته كذلك مدي التدني الذي وصل إليه حاكم مصر آنذاك الذي وقف في شرفة قصر رأس التين وحوله بطانته من الأجانب ، يتطلع إلي ما تحدثه مدافع الأدميرال سيمور البريطاني من دمار وقتل في مدينة الأسكندرية .
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق