تناولت في مقالات كثيرة ، بعض أمثلة للمخاطر التي قد تهدد الأمن القومي المصري ، بما في ذلك إحتمالات قيام مصر بعمل عسكري شامل ضد الكيان الصهيوني .
وقد توصلت بشكل عام إلي استنتاج إستحالة تبرير ذلك من زاوية القانون الدولي إلا بشروط معينة ، وفي هذا المقال سأحاول البحث في سيناريو أقل من حرب شاملة ، وأكثر من مجرد إشتباكات محدودة ، وأعني بذلك البحث في إمكانية قيام مصر بتوجيه ضربات إجهاضية محدودة ضد بعض القوات الصهيونية التي تحتشد الآن علي حدودنا في المنطقة د (بالمخالفة لإتفاقية السلام بين البلدين ).
ولا شك أن هذا قرار خطير ، ولا يمكن الإقدام عليه إلا بعد تفكير وتدبير ، مع إنذار العدو بحقيقة وتفاصيل إنتهاكاته ، ومطالبته بسحب قواته ، مع تمهيد دبلوماسي واسع ، بما في ذلك مخاطبة مجلس الأمن لإتهاذ قرار يلزم العدو بإحترام تعهداته.
فإذا تبين تعسف العدو ، أو الكشف عن نواياه العدوانية التوسعية ، أو ثبات محاولته دفع سكان غزة لإقتحام الحدود المصرية ، فأن ذلك يمكن أن يعد في حد ذاته ذريعة كافية للدفاع عن النفس أو cause belli.
وسوف أحاول فيما يلي كشف بعض الجوانب القانونية الهامة للموضوع ، خاصة بعد تصاعد أصوات عديدة تطالب الحكومة بعمل عسكري مصري ضد الكيان الصهيوني .
أولا : التدخل العسكري المصري لحماية السكان في غزة من عمليات الإبادة التي يستنكرها العالم كله ، وهذا التدخل يجد أساسا قانونيا في قواعد القانون الدولي الإنساني ، فقد برز مؤخرا إلي الوجود مولود دولي جديد هو "مبدأ المسئولية في الحماية " Responsibility to Protect " التي اختصرت في R2P ، وهو يؤكد أن سيادة الدولة تتحقق مع التزام الدولة بحماية شعبها ، وإذا كانت الدولة غير راغبة أو غير قادرة على القيام بذلك، فإن المسؤولية تنتقل إلى المجتمع الدولي، الذي يستخدم وسائل دبلوماسية وإنسانية لحمايتهم، و إذا لم تكن الوسائل السلمية كافية، فأن مجلس الأمن يمكن أن يفوض استخدام القوة وفقا للفصل السابع من الميثاق كحل أخير.
وحيث أن الشعب الفلسطيني يعتبر بمثابة " شعب " يخضع لسلطة الإحتلال ، التي أثبتت أنها غير راغبة أو غير قادرة علي توفير الحماية اللازمة له ، فأن التطبيق الواسع لمفهوم " المسئولية في الحماية " يثبت في هذه الحالة رغم اختلاف الوصف الاصلي mutatis mutandis .
إلا أن تطبيق هذه القاعدة يتطلب تفعيلا عن طريق مجلس الأمن ، وهو ما لا يتصور تحققه في ظل وجود الفيتو الأمريكي ، ولكن ذلك قد يثير تفكيرا خلاقا يستند إلي أن المنظمات الإقليمية تتولي عبء صيانة الأمن والسلم الدولي في إطار مناطق نفوذها ، بما يعني أنه يمكن بتفسير واسع أن تصدر جامعة الدول العربية قرارا بتكليف بعض الدول العربية بالتدخل لحماية الشعب الفلسطيني وفقا لمبدأ " المسؤلية في الحماية " ، أو مطالبة محكمة العدل الدولية بإقرار هذا الحق .
ثانياً : الضربات الإجهاضية Pre-emptive Strikes ،تعني باختصار " عدم إنتظار العدو ، وإنما الذهاب إليه " ، ويذهب بعض الفقهاء إلي أن القانون الدولي قد اعترف منذ زمن بعيد بحق الدفاع أمام " الخطر المحتمل " (Imminent danger ) ، ويمكن علي ضوء ذلك أن تري مصر أن مفهوم " الخطر المحتمل " يجب تكييفه طبقاً لإمكانيات وأغراض الكيان الصهيوني ، ليس فقط بناء علي سلوكه العدواني ، وإنما ما تكشف عنه تصريحات بعض كبار مسئوليه عن نوايا عدوانية ، مثل " إعادة إحتلال سيناء " ...
وذلك قد يعني بإختصار تقديم تعريف جديد لما توافق عليه أغلب فقهاء القانون الدولي الذين كانوا يعرفون " الخطر المحتمل " بأنه "ذلك الخطر الذي يبدو من تحرك عسكري واضح من الخصم أي دبابات وأساطيل وتعبئة .. إلخ ، بهدف الإعتداء علي أراضي إحدي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة " .
وتجدر الإشارة إلي أن أمريكا قد استخدمت هذا النوع من الضربات ضد بعض الأهداف في اليمن ، و في العراق ، كما استخدمته أيضاً في سوريا ضد جماعة داعش ، سواء بحجة حماية الأقليات ، أو مواجهة أخطار محتملة ، وبشكل لا يدعمه أي نص حالي في القانون الدولي .
قد لا تكون هناك غضاضة في أن تتغير قواعد القانون الدولي لمواجهة ظواهر مستحدثة في النظام الدولي ، فحين تزايدت ظاهرة إختطاف الطائرات المدنية وإحتجاز الرهائن ، توصل المجتمع الدولي إلي إتفاقات منظمة لمواجهة هذه الظاهرة ، وحين نشأت الحاجة إلي نظام قضائي لمواجهة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ، توصل المجتمع الدولي عبر إتفاق روما إلي إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ، وكذلك كان الحال مع قضايا البيئة والتنمية..إلخ
الشاهد أن ذلك التطور كان يتم عبر وسيلتين من وسائل تعديل أو خلق القاعدة الجديدة ، وهما : إما عرف دولي مستقر ومتواتر لمدة طويلة من الزمن ، وإما عمل فقهي سواء من خلال لجنة القانون الدولي أو المؤتمرات الدبلوماسية لإبرام إتفاقيات جديدة تنظم ظاهرة من الظواهر .
الجديد في هذا الموضوع هو صلاحيات دولة أو بعض دول ليس فقط في خلق وتعديل القواعد القانونية ، وإنما أيضاً بالتفسير والتنفيذ ، ثم وبفرض أن تلك القواعد الجديدة قد صارت عالمية القبول ، فهل يعني ذلك أنها عالمية التطبيق ؟ ، بمعني هل يجوز لأي دولة أن تشن الضربات الإجهاضية بناءاً علي تصور أو إفتراض أو حتي حقيقة بأن هناك نية موجودة لدي دولة أخري تشير إلي أنها قد تقوم – أو تقوم - بأعمال عدائية ضدها ؟.
ثم ما هو التعريف القانوني المحكم لما نطلق عليه إسم "الحرب الإجهاضية" ، و ماهي الأعمال العدائية التي تستوجب علي الدولة تنفيذ ضربتها الإجهاضية لتوخيها؟ ، وكل هذه الأسئلة وغيرها أسئلة هامة وحيوية في المفهوم القانوني الصحيح ، فحين حرم ميثاق الأمم المتحدة التهديد أو إستخدام القوة في العلاقات الدولية فأنه حدد بدقة الإستثناء علي هذه القاعدة العامة .
لذلك فأنه ولو كان من حق المجتمع الدولي إعادة النظر وصياغة وتعديل قواعد قانونية جديدة ، فأن هذه القواعد يجب علي الأقل أن تتسم بالحد الأدني الذي يجب أن يتوافر في تلك القواعد ، وإلا أصبح القانون هو اللا قانون .
نستخلص من ذلك أن القانون الدولي بوضعه القائم قد لا يوفر الأساس الكافي لتنفيذ هذا النوع من الضربات العسكرية ، مع التسليم في نفس الوقت بأن أمريكا وحلف الأطلنطي قد توسعوا في الخروج علي هذا القانون بما مثل تحد حقيقي للفقه الدولي بعد انتهاء الحرب الباردة ، ورغم أن البعض يقلل من أهمية هذا القانون في العلاقات الدولية ، إلا أن التاريخ يحدثنا بأن المآسي التي شهدتها البشرية لم تكن فقط نتيجة لإختلال ميزان العدل ، وإنما لإحتقار هذا الميزان وعدم إعتباره في العلاقات بين المجتمعات والشعوب.
فعلي سبيل المثال الأقرب للأذهان يكفي متابعة سلوك إسرائيل في المنطقة العربية أو تصرفات الدول العظمي بشكل عام ، فسوف نجد أن القانون الدولي في نسخته المعدلة عبارة عن قانون مخصخص ، تخصخصه كل دولة علي مزاجها وتضع فيه من القواعد ما يتماشي فقط مع قدراتها ومصالحها بغض النظر عن تناقض ذلك مع مصالح المجتمع الدولي ، وهو يشبه وضع العالم قبل الحرب العالمية الأولي والحرب العالمية الثانية.
وبهذا المفهوم يمكن أن نحدد بدون أي جهد في التحليل الدول التي يمكنها إستخدام ما يسمي " الضربات الإجهاضية "، فهي تلك الدول التي لديها القوة الشاملة التي تتيح لها انتهاك القانون الدولي دون أن تخشي أي عقاب ، ولكنها في نفس الوقت تهدم النظام القانوني الدولي خروجاً علي إجماع النظام الدولي بأكمله ، وذلك لا يستدعي في مواجهته جهد فقهاء القانون الدولي فقط وإنما بلورة إرادة سياسية دولية جماعية لإنقاذ العالم قبل فوات الأوان ، ولا أظن أن مصر ترغب أو تقدر علي مخالفة هذا القانون ، ولا أظن أن عاقلاً يمكنه أن يوصي بذلك ..
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق