في خريف ذلك العام، بدأت التحضيرات بين النشطاء لتنظيم مظاهرات ضخمة يشارك فيها مئات الآلاف لإسقاط الحكومة والرئيس. بينما اشتعلت البلاد وانقسم الشارع بين مؤيد ومعارض، خرج الرئيس فجأةً إلى الشعب من خلال خطاب متلفز: "أيها الأخوة المواطنون .. إن الوقود الراديكالي الذي ترونه على شاشاتكم كل ليلة لا يمثل أغلبية الشباب في بلادنا اليوم، ولن يكون هؤلاء قادة بلادنا في المستقبل".
في الأسابيع التالية، سيعكف الرئيس مع مستشاريه على تطوير استراتيجية لمواجهة "القلة المندسة" ولتحريك "حزب الكنبة" – أو "الأغلبية الصامتة" بتعبيره هو – نحو منحه تفويضًا للمضي في سياساته. في إطار هذه الاستراتيجية، بعد هذا بأشهر قليلة، ستصل مكالمة هاتفية مما يمكن وصفه بـ "إدارة الشؤون المعنوية" إلى منزل مواطن له شعبية صادقة بين الشباب والفقراء والمنسيين، تدعوه إلى لقاء خاص مع الرئيس.
كان هذا خريف عام 1969 في الولايات المتحدة في أوج انقسام المجتمع الأمريكي وهو في خضم معجنة فييتنام وبركان حركة الحقوق المدنية وثورة جيل نافر متمرد من الشباب. وفي قلب ذلك الغليان، هذه قصة يمكن أن توضح كيف يمكن لخلفيات البشر ولتعقيداتهم النفسية والذهنية ولطموحاتهم الشخصية أن تلون بشكل مثير مفهومهم لمعنى "الوطنية". مثلما يمكن أن توضح إلى أي مدى يمكن أن يذهب المرء إيمانًا بهذا المفهوم أو متاجرةً به.
فأما الرئيس فهو ريتشارد نيكسون، المحامي، العسكري، السياسي، الذي كان قد انتُخب قبلها بنحو عام بفارق ضئيل. وأما المواطن فهو جوني كاش، الفلاح، المجند، مطرب الأغاني الشعبية والقومية، الذي كان قد بلغ عندئذ مكانة كبرى من الشهرة والمحبة في قلوب قطاعات عريضة من الأمريكيين باختلاف مواقفهم وقناعاتهم السياسية.
ولكن لا بد أولًا من العودة إلى عام 1945 عندما كانت الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها وكان نيكسون يفوز لأول مرة بمقعد مجلس النواب عن ولاية كاليفورنيا بعد تبنيه حملة هجومية اعتمدت على إشاعة أن منافسه عن الحزب الديمقراطي يحمل أجندة شيوعية، وهو ما لم يكن صحيحًا.
كان هذا من بين الإرهاصات الأولى لحقبة الهيستيريا التي أمسكت بتلابيب أمريكا لأكثر من عقد من الزمن. يعرفها التاريخ الأمريكي باسم "الفزع الأحمر"، ويعرفها العالم الآن تبسيطًا باسم المكارثية، نسبةً إلى السيناتور جوزيف مكارثي الذي ترأس لجنة اسمها "اللجنة البرلمانية للأنشطة غير الأمريكية"، أي لمكافحة الأنشطة "غير الوطنية"، كان من أبرز أعضائها النائب ريتشارد نيكسون. من يومها، صارت المكارثية مذهبًا في حد ذاته له تعريف واضح في قواميس اللغة والسياسة: "ممارسة توجيه الاتهامات بالتخريب والخيانة دون سند أو دليل".
رغم وجاهة بعض مخاوف "الأمن القومي" في ظل الصراع الأيديولوجي الأمريكي-السوفييتي لدى انتهاء الحرب، الذي تطور إلى حرب باردة، كانت المكارثية مرتعًا خصبًا للفشلة والانتهازيين وتجار الوطن، أو – باختصار – "المعرصين".
يصعب تضخيم أثر كارثية المكارثية على مجتمع بُني أصلًا على فكرة الحرية والحلم، وهو بهذا يقدم لنا أحد أقوى الأمثلة في التاريخ لمن يريد أن يفهم أصول "التعريص" والتجارة بالوطن. فتّش في تاريخ البشرية كله منذ خلق الله الأرض ومن عليها فلن تجد حاكمًا عادلًا ولا مثقفًا حقيقيًا ولا صحفيًا ولا فنانًا ولا أي بشر به ذرة من الإنسانية إلا وبه في الوقت نفسه قبَسٌ من اليسار، بمعنى الانحياز للفقير والضعيف والمظلوم. وفتّش في تاريخ أمريكا كله منذ آبائها المؤسسين فلن تجد في أرض الحرية والحلم من هو مضطر حقًا إلى "التعريص" والتجارة بالوطن. هنا يصير "التعريص" والتجارة بالوطن هدفًا في حد ذاته، "تعريصًا نقيًّا"، يُستخدم أحيانًا لتعظيم المكاسب في مجتمع رأسمالي يميني الروح مفتوح الفرص، البقاء فيه للأقوى والأثرى والأمهر.
لم يكن الممثل رونالد ريغان مثلًا وقتها مضطرًا للعمل مخبرًا سريًا - هو وزوجته - لحساب مكتب التحقيقات الفيديرالي ضد زملائه في هوليوود الذين كان يعتقد أن لهم ميولًا يسارية. لكن هذا بكل تأكيد ساعده حتى وصل في النهاية إلى مقعد الرئاسة. ولا كان ممثل أفلام الكاوبوي، جون وين، مضطرًا وقتها إلى المشاركة في تأسيس ما يسمى "اتحاد السينما للحفاظ على المبادئ الأمريكية"، و لا أن يشارك في فيلم دعائي – هو فيلم "جيم ماكلين الكبير" - يمجد عمل اللجنة المكارثية ويشيع الخوف في مجتمع الحرية والحلم. لكن هذا بكل تأكيد ساعده في تثبيت مكانته نجمًا أول في هوليوود لسنوات طويلة، خاصة في أفلام الكاوبوي التي ساهمت بدورها في محاولات غسل الرجل الأبيض يديه من مذابح السكان الأصليين.
يكون البعض من مثل هؤلاء أحيانًا مخلصًا لطبيعته وفقًا لمفهومه لـ "الوطنية"، ويحتاج العقل الباطن لدى معظمهم إلى آليات سيغموند فرويد للدفاع عن الذات، من مثل "التبرير" و "الإسقاط" و "الوهام"، كي يقنع نفسه بأنه ليس "معرصًا"، وبأنه على صواب، وبأن الخطأ يكمن في الآخر لا فيه هو، ومن ثم يستطيع الاستمرار في الحياة بأدنى قدر ممكن من الصراع النفسي.
آخرون لا يستطيعون ذلك حتى إذا أرادوا. من بين هؤلاء في تلك الحقبة المخرج أوتو بريمينجر و الممثل كيرك دوغلاس الذين لم تقترب منهما أي شبهات وسط تلك الهيستيريا لكنهما لم يكونا سعيدين بما يحدث لجانب كبير من الناس داخل هوليوود وخارجها. وضعت اللجنة المكارثية مئات الأسماء على قائمة سوداء فشوهت صورتهم لدى كثير من العامة وأرهبت المنتجين والمخرجين، وأصحاب الأعمال عامةً، من مجرد الاقتراب منهم، وقطعت أرزاقهم.
كان من بين هؤلاء الروائي كاتب السيناريو دولتون ترمبو الذي رفض المثول أمام اللجنة واضطر إلى التضحية باسمه لإعالة أسرته. استمر ترمبو في كتابة بعض من أبرز أفلام هوليوود وقتها إما تحت اسم مستعار أو تحت اسم زميل له غير مغضوب عليه في مقابل نسبة من الأجر. حصلت كتاباته آنئذ على جائزة الأوسكار مرتين عن فيلم "إجازة رومانية" وفيلم "الشجاع". لكن المخرج أوتو بريمينجر أصر على كشف اسم المؤلف الحقيقي لرائعته "النزوح"، مثلما فعل الممثل كيرك دوغلاس عندما كشف اسم المؤلف الحقيقي لواحد من أبرز الأفلام في تاريخ هوليوود كله: "سبارتاكوس". وكان هو دولتون ترمبو في الحالتين.
باسم "الوطنية"، شُوهت صورته باعتباره عدوًا للروح الوطنية الأمريكية، مثلما حدث مع عملاق هوليوود البريطاني، تشارلي تشابلن، الذي انتقد هيستيريا "الفزع الأحمر" والمكارثية بعد أن انتقد الرأسمالية المتوحشة والتسلح النووي في فيلمه "السيد فيردو". مُنع تشابلن من العودة إلى أمريكا إلا إذا خضع لتحقيق يفتش في آرائه السياسية. فضّل الرجل البقاء في بلاده ولم يعد إلى أمريكا إلا بعد حوالي عشرين عامًا كي يتسلم جائزة الأوسكار.
وباسم "الوطنية"، وُضع على القائمة السوداء أيضًا الممثل والموسيقي هاري بيلافونت، الناشط البارز في حركة الحقوق المدنية مع مارتن لوثر كنغ. جاء هذا بعد انتقاده العنصرية والمكارثية والحرب في فييتنام. سيلحق به كثيرون بعد ذلك ممن تهددت حياتهم وأرزاقهم، واتُهموا بانعدام الوطنية، من أبرزهم بطل الملاكمة، محمد علي كلاي، ونجمة السينما، جين فوندا.
أما النائب ريتشارد نيكسون، أحد أبرز أعضاء اللجنة المكارثية، فقد تأكد من انتهاز الفرصة لدعم وضعه ومسيرته السياسية، "ليس لأنه أحب قيصر أقل، بل لأنه أحب روما أكثر"، تعبيرًا عمليًا منه عن "أصالته" المحافظة و "وطنيته" الطافحة في آنٍ معًا. باستخدام النوعية نفسها من الإشاعات والاتهامات، ضمن لنفسه إعادة انتخابه نائبًا عام 1948 بعد نجاحه في استصدار قانون مخيف داخل مجلس النواب.
في تلك الأثناء، كان جوني كاش على وشك الانتهاء من خدمته العسكرية عندما كان ريتشارد نيكسون على موعد مع القدر. في عام 1952 اختار الحزب الجمهوري بطل الحرب العالمية الثانية، الجنرال دوايت آيزنهاور، مرشحًا لمقعد الرئاسة. احتاج هذا إلى نائب من نوع خاص يخوض معه حملة صعبة على بطاقة انتخابية واحدة. ولأنه كان حريصًا على الحفاظ على "بريستيج" ونظافة القائد العسكري المنتصر، قرر آيزنهاور الابتعاد بنفسه عن القاذورات الحتمية المرتبطة دائمًا بالحملات الانتخابية، ومن ثم كان ببساطة في حاجة إلى نائب سليط اللسان، عريض الصدغ، "أُلعبان"، مشهور في الوقت نفسه بـ "حب الوطن". توفرت الشروط في السيد ريتشارد نيكسون.
كان نجم جوني كاش هو الآخر يعلو وإن كان في مجال آخر ولأسباب أخرى. بعد قليل، في عام 1956، ستحتل إحدى أغانيه لأول مرة قمة الأغاني الأكثر انتشارًا لمدة ستة أسابيع متتالية. كانت هذه أغنية "أمشي على الخط" I Walk the Line، التي تحض كلماتها على الفضيلة والأصالة والإحساس بالمسؤولية.
سيخصص كاش، بينما يستمر نجمه في الصعود، كثيرًا من وقته متبرعًا بالغناء داخل السجون للتخفيف من معاناة من يدفعون ثمن جرائمهم ولتشجيع السلطات والمجتمع على إعادة استقبالهم. لكنه هو نفسه سيدفع ثمن مواقفه المنحازة في كثير من الأحيان ضد القوالب الذهنية والتيار السائد. في عام 1957 كتب كاش و غنى لقبائل الأباتشي من السكان الأصليين في الجنوب الغربي لأمريكا: أيها الأباتشي العجوز، كم من السنين العجاف شهدت؟
تجاهلت أمريكا "الوطنية" أغنيته هذه لكنها لم تستطع، بعد هذا بسنوات قليلة، أن تتجاهل ألبومه "دموع مريرة" الذي احتوى أغنية عن المجند "آيرا هيز" الذي هو سليل السكان الأصليين. كان هذا واحدًا من الجنود الأمريكيين الستة الذين رفعوا علم بلادهم على جزيرة "إيوو جيما" التي فتح سقوطها الباب واسعًا أمام الجيش الأمريكي لإخضاع اليابان في الحرب العالمية الثانية.
بعد عودته، صار آيرا هيز بطلًا قوميًا يتباهى به كل "الوطنيين" بمن فيهم الرئيس نفسه، دوايت آيزنهاور. صار في الواقع أيقونة يريد كل "وطني" أن يقتني قطعة منها لأسبابه الخاصة حتى استطاعت زوجة سابقة لنجم السينما والغناء وقتها، مارتن دين، أن تستخدمه سائقًا خاصًا بها. لكن مزيجًا من أصالته وحيائه ونفوره من الشهرة والنفاق وكمده الأبدي على رفاق السلاح، الذين فقدوا أرواحهم، دفع به في نهاية الأمر إلى إدمان الخمر حتى عُثر على جثته ذات يوم في عام 1955 إلى جوار كوخ مهجور في أريزونا. و هكذا غنى له جوني كاش:
في مجرى الخنادق قبل ألف سنة
روت المياه محاصيل أهل آيرا
إلى أن سرق الرجل الأبيض حقوق المياه
أهل آيرا الآن جوعى
و أراضيهم لا تطرح إلا الحشيش
حين دقت الحرب طبولها تطوّع آيرا
ناسيًا طمع الرجل الأبيض
سمِّه سكّيرًا، آيرا هيز، لن يجيب عليك
نتيجةً لهذا، قاطعت شركات الإنتاج الموسيقي أعماله و اتهمه بعض أصحاب المحطات الإذاعية و المسؤولين فيها بالجنون. لم يفقد كاش الأمل، بل عمد متحديًا إلى توعية الرأي العام بما يحدث فنشر إعلانًا مدفوع الأجر على صفحة كاملة في مجلة "بيلبورد"، جاء فيه: "يا أصحاب المحطات الإذاعية و يا مدراءها .. أين شجاعتكم؟"
كان هذا في عام 1964 بعد أشهر قليلة من اغتيال الرئيس جون إف كينيدي الذي كان قد فاز على منافسه نحو البيت الأبيض في انتخابات 1960 بفارق ضئيل. لم يكن هذا المنافس سوى ريتشارد نيكسون الذي يعود الآن إلى كاليفورنيا متحينًا فرصًا أخرى للتعبير عن "وطنيته"، من بينها محاولة فاشلة للوصول إلى مقعد حاكم كاليفورنيا.
في تلك السنوات من ستينات القرن الماضي، كانت أمريكا تغلي بوصول حركة الحقوق المدنية إلى ذروة غير مسبوقة، وبثورة جامحة للشباب على "دولة العواجيز" وعلى أسلوب الحياة وعلى أمور أخرى كثيرة كان من أبرزها بكل تأكيد معجنة الجيش الأمريكي في فييتنام. رغم هذا – أو ربما بسببه – نجحت الحملة الانتخابية الرئاسية عام 1968 في الوصول بالرجل "الوطني" الطموح، ريتشارد نيكسون، إلى البيت الأبيض و إن كان بفارق ضئيل.
لن يمر وقت طويل قبل أن يدرك حجم المعجنة أمام حجم الغضب الشعبي، خاصةً بين الشباب، فأخذ الذي كان يُعرف على نطاق واسع باسم Tricky Dicky في تطويع شتى حيله الأُلعبانية التي تصدرتها الآن محاولة جريئة لاستجلاب التعريص.
في يوم الإثنين، 23 مارس/آذار 1970، صدر عن البيت الأبيض بيان رسمي مكتوب، جاء فيه: "وجه الرئيس نيكسون و حرمه دعوة إلى السيد جوني كاش لإقامة حفل غنائي في البيت الأبيض .. و قد طلب الرئيس رسميًا من السيد كاش أن يغني أغنية (كاديلاك) وأغنية (أوكي من مسكوغي)".
أصيب جانب كبير من الصحافة الحرة ومن جمهوره الواسع بحالة من الذهول. ذلك أن كلمات الأغنيتين تعكس بصورة واضحة احتقارًا ساخرًا من جانب اليمين المحافظ لجوهر التحولات والتحديات التي كانت تعتصر قلب أمريكا آنئذ بين من صاروا يسمون "صقورًا" ومن صاروا يسمون "حمائم". رغم أن أيًّا من هاتين الأغنيتين لا ينتمي له، كيف يمكن لمثل جوني كاش أن يلبي رغبة الرئيس وأن يغني مثل تلك الكلمات في مثل ذلك المكان في مثل ذلك الوقت في مثل تلك الظروف؟ تساءل الناس و بقيت الإجابة في قلب كاش.
في مساء الجمعة، 17 أبريل/نيسان 1970، اصطحب جوني كاش أبويه و إخوته وزوجته وطفله الوليد وفرقته وجانبًا من أصدقائه إلى ما لم يكن أي منهم ليحلم به يومًا: البيت الأبيض. أصيب كثير من رجال الدولة و نسائها بإحباط شديد عندما لم تتسع لهم أكبر قاعة في منزل الحكم بينما تملّك الشغف ممن كان لهم حظ الحضور في القاعة التي تعج الآن بنحو 250 اصطفوا على جانبي الرئيس وزوجته وخلفهما: ماذا في جعبة جوني كاش الليلة، في هذا المكان، في هذا الوقت، في هذه الظروف؟
وقف نيكسون أولًا أمام الميكروفون كي يقدم بنفسه نجم الليلة: ".. موسيقاه تحكي قصصًا عن أمريكا بصورة تلمس قلوب الأمريكيين جميعًا، في الشمال وفي الشرق وفي الغرب وفي الجنوب. سيداتي وسادتي، أقدم لكم جوني كاش".
تقدم كاش في حلته السوداء التي اشتهر بها نحو الميكروفون و غيتاره تحت إبطه: "شكرًا جزيلًا .. نأمل أن ننقل لكم الليلة قليلًا من روح الجنوب". ثم استدرك لاحقًا يقول: "يسألونني كثيرًا عن الحرب والمخدرات والشباب، وعن هذا وذاك. حسنًا، لقد سافرنا باستعراضنا إلى القاعدة الجوية في لونغ بن قرب سايغون في فييتنام. قدمنا عروضًا للجنود هناك، عروضًا كثيرة قدر ما استطعنا في الوقت الذي أتيح لنا. قال لي أحدهم بعد ذلك إن هذا يجعل مني صقرًا. كلا، فإنك إن كنت من الحمائم ثم رأيت الجرحى يأتون في طائرات الهليكوبتر ستعود من هناك حمامة ولكن لها مخالب".
أطبق الصمت على القاعة المحتشدة ولاحظ الحضور شعورًا واضحًا بعدم الارتياح يرتسم على وجه الرئيس ومعاونيه. استمر كاش في حديثه وكأنه يوجه الآن رسالة مباشرة إلى نيكسون: "إن كنتَ تريد إقناع شخص ما بشيء ما له معنى، عليك أولًا أن تجذبه إلى جانبك. هذه قصيدة كتبتها من أجل الشباب في أمريكا، اسمها: ما هي الحقيقة؟" ثم انطلق يعزف ويغني:
أغلق الرجل العجوز مذياعه و قال:
"أين ذهبت تلك الأغاني القديمة كلها؟
الصغار يلعبون اليوم موسيقى غريبة الشكل"
حسنًا، أيها الرجل، أربما يريدون أن يسمعهم أحد وسط ضوضائك؟
صوت الشباب في العزلة يصرخ: "ما هي الحقيقة؟"
طفل في الثالثة يفترش الأرض و يسأل أباه:
"بابا، ماذا تعني كلمة حرب؟"
يرد أبوه: "الحرب يا بُنيّ هي أن تحارب و أن تُقتل"
طفل الثالثة يتساءل: "لماذا؟"
أبوه في السابعة عشرة من عمره
و ربما بعد عام يحل الدور عليه كي يموت
هل تجرؤ على لوم صوت الشباب حين يسأل: "ما هي الحقيقة؟"
يستمر كاش في غنائه بضرب مزيد من الأمثلة من هذا النوع إلى أن يصل قرب النهاية إلى بيت القصيد في إشارة واضحة إلى خطاب نيكسون عن الشباب المتظاهر ضد الحرب حين قال هذا إن أولئك "لن يكونوا قادة بلادنا في المستقبل":
هؤلاء الذين تسميهم متهورين
سيكونون هم القادة بعد قليل
هذا العالم يستقبل فجرًا جديدًا
و أقسم أنهم سيفرضون عليه طريقتهم
من الأفضل إذًا أن تساعد صوت الشباب
كي يكتشف "ماهي الحقيقة"
بعد هذا، قرر كاش الذي اشتهر بارتداء زي أسود في حفلاته، على عكس نجوم الغناء في ذلك الوقت، أن يغني ذلك "الموّال" الذي يشرح فيه لماذا يرتدي اللون الأسود، Man in Black (الرجل المتشح بالسواد):
أتشح بالسواد من أجل الفقير والمقهور
الذي يعيش في الجانب الجائع اليائس من المدينة
أتشح به من أجل السجين الذي دفع ثمن جريمته
لكنه لا يزال ضحية الزمن
أتشح به من أجل المريض والعجوز الذي يشعر بالوحدة
من أجل من تعثرت أقدامهم فانتهوا إلى البرد
أتشح بالسواد كمدًا على أرواح كانت لتبقى
في كل أسبوع نفقد مئةً من خيرة الرجال
وحتى لا تبقى ذرة من الشك في قلب نيكسون، غنى كاش مرةً أخرى "موّال" آيرا هيز، بطل معركة إيوو جيما الذي مات لاحقًا وحيدًا في أحد شوارع أريزونا كمدًا على رفاق السلاح.
والحقيقة أن جوني كاش لم يكن ثوريًا ولا حتى ناشطًا سياسيًا. كان في الواقع مجرد مواطن يحتفظ بالحد الأدنى من الإنسانية والأخلاق. حين حانت لحظة الاختيار بعد لحظة إدراك الحقيقة، طوّع موهبته وأدواته لقولة الحق في حضرة السلطان دون فسق أو اعتداء ودون خوف من عصا أو طمع في جزرة. كان إنسانًا يتمتع بحياء فطري لكنه لم يكن أبدًا مستعدًا أن يشرب من دماء القتلى والمقهورين والفقراء، ولا كان مستعدًا لتحقيق رغبة الرئيس في "قليل من التعريص" رغم بريق الجائزة التي كانت في انتظاره.
ولم يكن حتى مستعدًا أن يفعل شيئًا من مثل ما فعله نجم الغناء الأمريكي، إلفيس بريسلي، لاحقًا في ذلك العام نفسه، عام 1970. كان بريسلي وقتها - ولا يزال - أكثر شهرةً وانتشارًا، مثلما كان أكثر ثروةً ونفوذًا، والأهم من هذا كله أنه كان أقل حاجةً أو اضطرارًا إلى "التعريص" إن كانت هناك حاجة أصلًا إلى هذا. لكنه أضاف إلى "التعريص النقي" انتهازيةً فجة حين طلب هو لقاء الرئيس في موعد عاجل.
دخل بريسلي إلى البيت الأبيض مرتديًا حُلته الطاووسية المعتادة وحزامًا من الذهب ومسدسًا نصف آلي من عيار 45 (السلاح الشخصي النمطي لضباط الجيش الأمريكي آنذاك). وافق نيكسون على استقباله لأنه كان في حاجة ماسة إلى الوصول إلى عقول الشباب وأفئدتهم من خلال أحد "المؤثرين" بعد فشل محاولته مع جوني كاش. اليوم يأتيه من هو أكثر شهرة وأكثر "تأثيرًا" متطوعًا بكل شيء وأي شيء. ما يحفظه التاريخ من "التعريص" التطوعي أكثر بكثير من "التعريص" الاضطراري.
وفقًا لما سجله إيغل كرو، أحد مساعدي الرئيس، الذي حضر ذلك اللقاء، عبّر بريسلي عن رغبته في الحصول على بادج مكتب التحقيقات الفيديرالي وعلى لقب "عميل حر"، وذلك كي يستطيع حمل مسدسه وعقاقيره المخدرة دون مساءلة. في مقابل هذا، أكد بريسلي للرئيس على "أنني في صفك .. وأنني أريد أن أعيد للعلَم الأمريكي بعضًا من هيبته .. وأنني درست، على مدى عشر سنوات، كيف تغسل الشيوعية أدمغة الشباب وكيف انتشرت بينهم ثقافة المخدرات".
بين نظرات الإعجاب و التشجيع من جانب الرئيس، لم ينس إلفيس بريسلي أن يدق إسفينًا في أشهر فريق موسيقي بريطاني اكتسحت شعبيته العالم كله، بما فيه أمريكا، في ذلك الوقت. "فريق البيتلز ليس إلا قوة مناهضة للروح الأمريكية .. لقد أتوا إلى هذا البلد كي يجنوا المال والأرباح قبل أن يعودوا إلى إنغلترا حيث يروجون للمشاعر غير الوطنية الأمريكية". هز نيكسون رأسه موافقًا بريسلي على ما قاله بينما التقت رؤيتاهما حول أن "أولئك الذين يتعاطون المخدرات هم أنفسهم الذين تراهم في طليعة المظاهرات غير الوطنية الأمريكية"، وحول أن "العنف وتعاطي المخدرات والتمرد والتظاهر تلتقي معًا جميعًا بشكل عام في نفس المجموعة من الناس".
من سخريات الزمن أن إلفيس بريسلي سيموت لاحقًا بنوبة قلبية من جراء تعاطي العقاقير المخدرة، وأن ريتشارد نيكسون سيتسبب في مقتل المزيد من الشباب الأمريكي، هذه المرة في جامعة ولاية كِنت، الذين واصلوا تظاهراتهم ضد عناده بتوسيع حرب فييتنام عبر الحدود إلى كمبوديا. لن يستطيع إنهاء الحرب بطريقته هو، لكنها ستنتهي بطريقتها هي، بينما سينتهي هو إلى ذاكرة بائسة بعد فضيحة التجسس على الحزب الديمقراطي، المعروفة باسم "ووترغيت". هذا، بينما تزيد شعبية جوني كاش كل يوم، و معها احترام الناس و حبهم.
مات ريتشارد نيكسون عام 1994، و مات جوني كاش عام 2003، بعد أن سبقهما إلفيس بريسلي عام 1977. في نهاية المطاف، لم تستطع الألاعيب – على مهارتها – أن تتحمل الثمن، و لم ينس التاريخ من كانوا – حين حانت لحظة اختيار – على استعداد لدفع الثمن، بينما يثبت "التعريص" كل يوم أنه دائمًا بلا ثمن
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق