ثلاثة أيام من القراءة المتواصلة لما كتب مصريا وعربيا عن هذا التسجيل المجتزأ (التسريب الخطير) للقاء بين جمال عبد الناصر والرئيس الليبي معمر القذافي، وقد ذهلت من كم الكتابة عن التسجيل الذي اعتقد أن 80% ممن كتب عنه لم يستمع إلى التسجيل المجتزا كليا، بل أغلبهم كتب انطباعه من عنوان الفيديو الذي نشر على قناة يوتيوب باسم ناصر، أكثر من 30 الف كلمة قمت بتخزينها على جهاز الحاسب الآلي الخاص وجلست ساعات طويلة اقرأ ما يتدواله المصريون والعرب.
معركة في العنوان
كانت الملاحظة الأولى تقول أن الجميع لم يعد لديه وقت للاستماع لكامل التسجيل فأن الملاحظة الثانية عدم قدرة هؤلاء على التدقيق في المصدر ولا في سياق اللقاء فالكثيرون أشاروا أنها محادثة تليفونية ولم تكن كذلك بل لقاء طويل وموجود به محضر رسمي موجود نسخة منه في مكتبة الإسكندرية لقاء صوت وصورة، وتفريغ مكتوب.
لا أدري أن كانت هناك نسخة موجودة لدي أجهزة الدولة المصرية أم أن النسخة الأصلية لدى أبناء عبد الناصر فقط السيدة هدي أستاذة العلوم السياسية والسيد عبد الحكيم رجل الأعمال، وأن كان هذا صحيح فهناك مشكلة كبيرة، أعرف أن هناك أوراق لجمال عبد الناصر كانت موجودة في منزله خاصة بملاحظات مدونة بمفكرته أو أوراق يكتب عليها ملاحظات أو مهام وتعليمات، وكان لدى السيد سامي شرف بعض الأوراق المفردة أما كون محضر لقاء رسمي لا يوجد في وثائق الدولة فهذا وضع غريب ولا يجب أن يستمر، حتى لا يصبح تاريخ الدولة في يد أبناء وأحفاد قد لا يدركون قيمة تلك الوثائق، وإذا كان أبناء عبد الناصر يحتفظون بمثل هذه الوثائق فهل يحتفظ أبناء السادات ومبارك بمثلها، وإذا كان عبد الناصر حريصا على تسجيل كل المحاضر واللقاءات وكانت مبادرة فردية فهل استمر التوثيق لكل اللقاءات للرؤساء بعد وفاته؟ أسئلة تبحث عن إجابة.
اعترف السيد عبد الحكيم عبد الناصر بصحة التسجيل الذي انتشر كالنار في الهشيم مما يؤكد الحضور الدائم لرجل رحل منذ 55 لدي كارهي عصره وتجربته، ولدى محبيه في كل انحاء الوطن العربي وأن اصاب محبيه في البداية الصدمة من عنوان التسجيل ولكنهم صبروا حتى يستمعوا للتسجيل كاملا أولا وللبحث عن أصله ثانيا، الغريب في تصريح السيد عبدالحكيم أنه جاء مجتزأ كالتسريب فهو لم يشر إلى اجتزاء التسريب ولا ما تم من عملية مونتاج وهذا يثير علامات تعجب كثيرة! وخاصة بعد إذاعته في إحدى القنوات العربية فقد كان ينبغي له أن يقول أن هذا جزء من لقاء وحدثت عمليات مونتاج صوتي على الحوار ولكنه صمت عن البوح وكأن يشارك المخالفين لوالده في الاقتصار بعنوان التسريب أو الاكتفاء بدقيقتين أو ثلاثه.
التسجيل المنشور والذي عنون بالتسريب الخاص رغم أن المحضر الرسمي موجود في مكتبة الاسكندرية أثار ضخة كبيرة الأصل فيها التوقيت خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وما يحدث في غزة من مجازر ومحارق يوميا، والخطط حول تهجير أهلنا في غزة، وابعاد المقاومة عن الحكم بل ونزع سلاح المقاومة فها هو القائد العربي الذي رفع شعار تحرير فلسطين يقول "لو عرضوا على الملك حسين الضفة الغربية منزوعة السلاح يقبل" هكذا نأخذ الجملة من سياق عام ويتداولها دعاة تسليم سلاح المقاومة ونزعه من غزة، وبالمثل يقول "ضحكوا على واحد في 1954 وقالوا له عبد الناصر خاين عشان سمح بقاعدة عسكرية للإنجليز فحاول يقتلني" فيجدها البعض فرصة لتبرئة الإخوان من حادث المنشية رغم أن عبد الناصر لم يشر في حديثه إلى من اقنعوا المتهم بالاغتيال في التسجيل بأنه خائن، الموضوع هنا ليس من امسك بتلك الجملة ومن تشبث بالسابقة عليها، فكل مجموعة من المصريين اجتزأوا جملتين تناسب علاقتهم بفترة حكم عبد الناصر وبه شخصيا.
كشف أحوال المصريين
حين دققت في التسجيل (التسريب المزعوم) لم يكن لدى نية التشكيك في رجل غادر منذ نصف قرن ولا الدفاع عنه ولا إدانته كنت أريد فقط أن استمع بدقة وروية لتسجيل وللوهلة الأولى اكتشفت أنني أمام حديث مبتور قلت في البداية : لماذا ينشر الآن بعد كل هذه المدة؟ وقلت ربما تدخل الذكاء الاصطناعي في التسجيل وتم تركيب جمل، ثم اكملت الاستماع فاكتشفت أن الجزء المذاع بالتسريب هو حالة فضفضة من اتهامات طالت جمال عبد الناصر بعد موافقته على مبادرة روجرز في أغسطس /أب 197.
تعرض عبد الناصر لهجوم من بعض الدول العربية نتيجة الموافقة على المبادرة، وكان يحاول في حديثه مع القذافي نفي تفريطه، ويدافع عن فكرة قبول المبادرة التي كانت لتحريك حائط الصواريخ إلى شاطئ قناة السويس، وكل ما قاله كان في أطار من الألم والسخرية ممن يطالبونه بالقتال حتى بدون استعداد.
لم يقل ناصر جملة واحدة في كامل التسجيل يتخلى فيها عن القتال أو الحرب، كل ما قاله لتكن حرب من أجل ما احتل في 1967، وبعدها تستعد لتحرير كامل الأرض، وهناك المئات من الوثائق حتى الإسرائيلية تقول أنهم عرضوا عليه سيناء مقابل الأعتراف بالكيان الصهيوني ولكنه رفض حلا مصريا فقط، ولكنها فرصة أيضا في التسريب المجتزأ لمعجبي السادات وسياسات الاستسلام ليقولوا ها هو الزعيم يقبل بسلام (استسلام) وحل فردي فبلاش جعجة فارغة وهذا موجه لمن يدعمون المقاومة في غزة وعدم التفريط في السلاح كوسيلة تحرير.
تكشف ردود الفعل حول التسريب المذاع حضور جمال عبد الناصر بقوة رغم رحيله البعيد وبقدر المعارضين والكارهين له وقد كتبوا الآلاف من التدوينات التي تقترب حجم المقالات كان هناك المحبين أيضا الذي كتبوا مثلهم وأكثر وبينهم ضاعت كلمات من يفكرون بعقل وتروي وبعض هؤلاء تعرض لهجوم ضاري من أنصار الملكية واللبيرالية والشيوعية، والتيارات الإسلامية أبرز مثالين لهذا الهجوم كان الكاتبان الكبيران أنور الهواري، وسليم عزوز وكلاهما بينهما وبين عبد الناصر والناصريين الكثير من الاختلافات بل والمعارك ولكنهما احتكما إلى العقل والتدقيق والضمير في شهادة للتاريخ، والغريب أن كل التيارات المشار إليها رغم تناقضها تتفق فقط حين يتعلق الأمر بجمال عبد الناصر.
لن تجد توافق بين هؤلاء حينما تحدثهم عن مستقبل هذه الأمة وحالها فلا يمكن لهم الاتفاق وهو أسوء ما تمر به هذه الأمة فمثلا لم يكتب على مدار الشهر الماضي عن غزة ومجازرها 10% مما كتب عن تسريب ناصر/ القذافي من هؤلاء الأضداد، او عن مشاكل الاقتصاد والتعليم، الثقافة، الإعلام.
لكن المصريين يجيدون حرب طواحين الهواء، وكلما وجدوا موضوع أو حادث يشعل النيران بينهم يتمسكون به أكثر، وتبدأ حرب البسوس بينهم، الناصريون يمسكون بتلابيب الإخوان، والإخوان يتعلقون بخناقهم، والشيوعين يشعلون نيران الفرقة مع اللبيراليبين، وأبناء الملكية يمسكون برقبة عبد الناصر الراحل منذ نصف قرن، والبعض يؤكد أن هذا الغائب هو سبب الحال المصري، وهكذا مصر تجد في عناوين اليوتيوب مجالا لمعارك الماضي الأمنة ولا أحد يجد طريقا للمستقبل وكما أقول دائما طريق المستقبل مكلف جدا ولا تستطيعه الأغلبية، والآن يرتاح أصحاب التسريب المجتزأ فهذه معارك تستمر أياما يستطيعوا خلالها تحقيق الهدف من التسريب وحققوا هدفا في مزيد من الشقاق وابعادنا عن قضايا أكثر أهمية للمستقبل.
المصدر : الجزيرة مباشر نت
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق