خالد محمود يكتب : فلسطين ليست قضية العرب وحدهم


فلسطين 
 جبهة متقدمة في معركة التحرر الإنساني، وإليها تتقاطع خطوط النضال الأممي.

لا يظهر التضامن مع فلسطين كفعل أخلاقي، بل كاشتباك سياسي مع نظام عالمي يُنتج القمع كما يُنتج الفقر. لم يكن الغضب إنسانيًا فقط، بل طبقيًا في جوهره؛ جيلٌ لا يتعاطف من بعيد، بل يواجه المنظومة التي جعلت المجازر ممكنة. فلسطين هنا ليست استثناءً، بل جبهة مفتوحة ضد استعمار متعدد الأوجه.

لقد خرجت الشعوب في لندن، كما خرجت في مدريد وأمستردام وسيؤول ومونتريال ونيويورك، واغلب عواصم ومدن العالم حاملة في قلبها ما هو أعمق من الغضب: وعيٌ عالمي يتشكل، يتحدى الخطاب الاستعماري الغربي، ويفضح تواطؤ حكوماته مع مشروع الإبادة الصهيوني في غزة. هذه ليست لحظة تعاطف، بل لحظة انكشاف، لحظة انتقال من "الحس المشترك" — ذلك الوعي المشوش الذي تبثه الأنظمة ووسائل إعلامها — إلى "حس سليم" ثوري، كما يسميه غرامشي: وعي نقدي، واعٍ، متجاوز للخداع الإيديولوجي.

غرامشي، علّمنا أن "كل إنسان فيلسوف" ما دام يملك تصورًا عن العالم. لكن هذا التصور قد يكون عفويًا، خاضعًا، مثقلًا بخطاب السلطة. والفلسفة الحقيقية ليست في التنظير المجرد، بل في كسر هذا التصور، في تحويل الغضب العفوي إلى وعي منظم، يحاكم الواقع لا يستسلم له.

ما نراه اليوم في شوارع الغرب هو تمرد على المقولات الجاهزة، على الرواية الرسمية، على الكليشيهات الأخلاقية التي استخدمتها النخب لسنوات لتبرير الدم الفلسطيني. هذه التظاهرات ليست يسارًا تقليديًا يعود، بل كتلة اجتماعية جديدة تُصنع في الشارع، بتضامنها، بغضبها، وبكسرها لحاجز الخوف والمحاباة.

لقد فشل النظام العالمي في إخفاء قبحه، وفشلت الحكومات الغربية في تمرير خطابها الإنساني الزائف. حتى شعوبها بدأت تخرج عليه. الجيل الذي نشأ على الإنترنت، على الصورة، على الرواية الفلسطينية الحية، لم يعد يؤمن بـ"الحس المشترك" الاستعماري الذي يُقدّم المحتل كضحية. الجيل هذا، هو الذي تحدّث عنه غرامشي دون أن يراه: الجيل الذي يُنقّب في التاريخ، يفكك الإعلام، ويفضح الإيديولوجيا الحاكمة.

في ظل كل هذا، يعود صوت محمود درويش، لا كشاعر، بل كصدى سياسي عميق:

"الغضب الساطع آتٍ... وأنا كلي إيمان"

لكن غرامشي كان سيكمل:

الغضب وحده لا يكفي، ما لم يتحول إلى وعي... إلى تنظيم... إلى مشروع.

لذا، ما نراه ليس فقط صحوة أخلاقية، بل لحظة تشكل لكتلة تاريخية جديدة — مصطلح غرامشي — كتلة تحمل ملامح عالم ما بعد الهيمنة الغربية، ما بعد الليبرالية الزائفة، عالم يولد من الشارع، من الهتاف، من ركام غزة، ومن عيون أطفالها و نساءها ورجالها.

فليكن هذا الغضب شعلة لا تذروها الريح، بل ترسم بها الجماهير ملامح زمن جديد.

تعليقات