في سياق العمل الصحفي، نادرًا ما أقبل دعوات احتفالية رغم أنها قد تفيد أحيانًا في توسيع شبكة المصادر. ولكن في تلك المرة عام 2006 قبلت دعوة من السفارة المصرية في لندن لأنها كانت احتفالًا بذكرى حدث يعز على القلب.
امتلأ الحفل الحاشد بوجوه كثيرة كنت أعرفها، وأخرى لم أكن أريد أن أعرفها، لكن العمل الصحفي يضطرك أحيانًا إلى ما لا تريد. كان العشاء على طريقة البوفيه المفتوح فوجدت نفسي في طابور. يلتقط أحدهم طبقًا من الخزف نُقش على طرف منه تاج: "يا سلااام، شوف عظمة أيام الملكية!" فيلتقط الذي كان يتحدث معه طبقًا آخر نُقش على ظهره علم الجمهورية وعبارة قرأها بفخر: "دا بقى صُنع في مصر يا باشا".
بينما كنا كذلك التقت عيناي بعينين كانتا تحملقان في اتجاهي. عرفته طبعًا وهو يومئ بابتسامته الساحرة المعهودة وإن اعترى ملامحه وهن ظاهر من بعيد. خرجت من الطابور فأقبل في اتجاهي. "أنا أشرف مروان"، مد يده للمصافحة بينما كنت أرد: "وأنا هنا للاحتفال بنصر أكتوبر". لو كان لهذا الرد أن يمر مرور الكرام على كل من في الحفل لم يكن ليمر مغزاه عليه هو. هكذا ارتسمت الحدود من البداية فأومأ لي بذلك قابلًا دون تعليق.
ثم انطلق أولًا في سيل من المديح لما قال إنها صحافة حقيقية يراها لأول مرة على شاشة عربية. لكن جانبًا كبيرًا من ذهني في تلك اللحظة كان متسمرًا لدى أول ملاحظة قادتني إلى أول استنتاج: هذا هو الجاسوس الذي أبلغ العدو بتفاصيل حرب أكتوبر مقدمًا وهو الآن أمامي أبرز ضيف في الاحتفال بذكرى حرب أكتوبر مدعوًا من السفارة المصرية؟ ما الذي يعنيه هذا؟ احتفظت باستنتاجي إلى حين.
لم يطل حديثنا؛ فهو ذكي وقد لاحظ سريعًا أنني لم أكن أشعر بكثير من الراحة، فدخل في الموضوع: "أنا عندي كلام كتير". قالها وقد اعترته لمسة من يأس لم يكن لي أن أمنحها ما تستحق من تقدير في ذلك الوقت؛ فما نعرفه الآن يفوق ما كنا نعرفه وقتها. تبادلنا بطاقات التعارف رغم أنني اعتبرت هذا من قبيل الذوق الشخصي أكثر من كونه من قبيل الاهتمام الصحفي. سوى انسداد النفس نحو ما كان قد ظهر أيامها من معلومات تخصه، كان السبب الرئيسي يتعلق بطريقة عملي؛ إذ إنني أفكر كثيرًا قبل الدخول في أي مشروع صحفي ينتابني شك في أنني سأستطيع السيطرة على مداخله ومخارجه، وقد كانت قصته في غاية التعقيد بحيث أن فرصة أي صحفي جاد في تفنيد خيوطها يمكن أن تغامر بوقوعه ضحية للاستخدام المباشر أو غير المباشر، عن علم أو عن غير علم.
قبل ذلك بنحو أربعة أعوام، عام 2002، لم يكن أحد يعلم هوية الجاسوس مرتفع المنزلة الذي أشارت إليه تحقيقات لجنة أغرانات الإسرائيلية في أعقاب حرب أكتوبر ومنحته رمز "أ/1" على أساس أنه أبلغ قيادتها بموعد الحرب والخطط الميدانية المصرية. حتى بدأ كاتب إس.رIئ-يلي يعيش في لندن، اسمه أهارون بيرغمان، في مغازلة أشرف مروان برسائل بريدية وإيميلات واتصالات هاتفية متكررة على أمل أن يسمح له بلقائه. كان بعض هذه الرسائل باعترافه هو نفسه مستفزًا يحمل تهديدًا مبطنًا بفضح اسمه، لكن مروان تجاهله تمامًا، فقرر بيرغمان أن ينتقم لكبريائه - كما يقول - ففضح اسم من كان يُعرف الآن لديهم شفريًا باسم "الملاك". فعلها أولًا في كتاب نشره في سبتمبر 2002 بعنوان "حروب إس.رI ئ-يل" قبل أن يفضحها تمامًا في لقاء مع جريدة الأهرام المصرية في ذلك العام، وإن كان عبر عن اعتقاده أنه عميل مزدوج.
أُوعز بعد ذلك أن المصدر الذي اعتمد عليه هذا الكاتب كان مدير جهاز المخابرات الحربية (أمان) أيام حرب أكتوبر، إيلي زعيرا. خرج هذا بنفسه عام 2004 وأكد اسم أشرف مروان وتبنى نظرية أنه كان عميلًا مزدوجًا خدعهم وخدم مصر.
من المهم حين تقتبس عن أي مصدر أن تبحث دائمًا في أدلته وفي دوافعه الشخصية. فأما بيرغمان فلم يقدم دليلًا وكان دافعه واضحًا في البحث الرخيص عن سبق صحفي تصحبه منفعة. وأما زعيرا فقد كان في حرب ضروس في محاولة للدفاع عن نفسه بعد أن "شال الليلة" بالتعبير المصري و حُمّل - مع أطراف أخرى من أبرزها تسفي زامير مدير الم.و-سا.د - مسؤولية الفشل الاستخباراتي قبل الحرب. لم يقدم زعيرا دليلًا على ازدواجية أشرف مروان، وكان دافعه دافعًا وظيفيًا مفهومًا لتخفيف العبء عن نفسه.
على القناة التليفزيونية نفسها التي استضافت زعيرا، خرج زامير بعدها بأسبوع كي يكذّبه ويؤكد أن أشرف مروان كان "جاسوسًا لا يضاهيه جاسوس" في ولائه لهم وأكثر من خدمهم ولم يكن عميلًا مزدوجًا لصالح مصر، وصب غضبه على زعيرا. لجأ زعيرا إلى المحكمة في قضية سب وقذف ضد زامير واشتعلت الصحافة لديهم ولدينا بتفاصيل المواجهة القضائية التي أضيفت إلى دهاليز التحقيقات الرسمية التي كانت لا تزال مستمرة، وكان اسم أشرف مروان وسيرته في موقع القلب منها لسنوات. لا بد أن كل لحظة في تلك السنوات من وجهة نظره كانت مشهدًا من فيلم رعب، ولا بد أن حياته بعدها، حتى هذه اللحظة التي التقيته فيها في السفارة المصرية، تحولت كلها، ليل نهار، إلى أشباح سوداء.
بعد لقائنا بأسابيع قليلة، وصلني على عنوان المكتب قفص أنيق يحتوي برطمانات صغيرة من منتجات الريف الإنغليزي الفاخرة من مربى وزبد وعسل وأجبان، مع "بيزنس كارد" أشرف مروان. هكذا دون سابق سوى تلك الدقائق التي جمعتنا في السفارة. اتصلت به كي أشكره وألتمس منه أن يتفهم أنني لا أقبل هدايا في سياق العمل، وحين أصر قبلتها بشرط أن يقبل أنني سأتبرع بها لمن لا يعرف مصدرها. لم أسمع منه بعد ذلك لكنها كانت نهاية مهذبة لأمر كان يشغله لأسبابه التي تخصه، ولا يريحني لأسبابي التي تخصني.
بعدها بشهور معدودة، بينما كنت أتابع رحلة رئيس الوزراء البريطاني المهزوم في الانتخابات، طوني بلير، في طريقه إلى قصر باكنغهام لتقديم استقالته رسميًا بعد ظهر السابع والعشرين من يونيو 2007، كان أشرف مروان في الوقت نفسه يسقط من شرفته في الطابق الخامس من شقته القريبة من ميدان بيكاديللي وسط لندن.
كان الخبر مدويًا، تحول سريعًا إلى لغز غامض، حتى شرطة اسكوتلنديارد المشهود لها بالكفاءة لم تستطع حتى اليوم أن تصل فيه إلى أي شيء قاطع جامع مانع باستثناء التأكد علميًا من أن الرجل حتى لحظة ارتطام جسده بالأرض كان لا يزال على قيد الحياة. ومن ثم، لا تزال السيناريوهات الثلاثة مفتوحة: القتل، أو الانتحار، أو السقوط صدفة.
قبل ذلك بنحو ثلاثة أسابيع، كانت المحكمة قد انتصرت لمدير الم.و-س.اد، تسفي زامير (الذي يؤمن بولاء أشرف مروان لإسرائيل إيمانًا قاطعًا حتى اليوم) على مدير الاستخبارات الحربية، إيلي زعيرا (الذي يؤمن بازدواجيته وخداعه لهم). ثمة حقيقتان ترجحان موقف زامير، أولهما أنه كان في نفس القارب مع زعيرا من حيث مواجهة مسؤولية الفشل الاستخباراتي بكل ما تنطوي عليه من تبعات مهنية وقانونية وسياسية وشعبية، لكنه لم يلجأ إلى البحث عن شماعة خطأ أو خداع العميل الميداني. وثانيهما، أنه كان يعرف أشرف مروان معرفة شخصية احترافية دقيقة والتقى به أكثر من مرة، أبرزها بكل تأكيد كانت قبل الحرب بيوم واحد في لندن حين أخبره مروان بساعة الصفر وتفاصيل أخرى.
كان أشرف مروان، مستشار الرئيس السادات المقرب منه، قد أحاط بتفاصيل خطة الهجوم المصري التي حُدد لانطلاقها آخر ساعة من نهار السبت 6 أكتوبر. اتصل مروان من القاهرة فورًا مساء الأربعاء بالطرف الآخر وطلب أن يلحق تسفي زامير شخصيًا به في لندن يوم الجمعة. لا بد أنه وجد حجة مقنعة لمن حوله كي يغادر القاهرة على عجل في ظل ظروف كتلك. ولا بد أن أحدًا لم يشك، إلا إذا كنت طبعًا ستترك الباب مفتوحًا أمام احتمال أن مصر برئيسها وجيشها ومخابراتها كانت تحاول خداع العدو بشأن ساعة الصفر عن طريق إطلاعه على ساعة الصفر!
لا يزال البعض رغم هذا يعتقد أن لذلك الاحتمال وجاهته على أساس أنه أخبرهم بأن ساعة الصفر كانت السادسة من مساء السبت بينما كانت الخطة من البداية أنها في الثانية بعد ظهر ذلك اليوم مما يمنح الجيش المصري 4 ساعات من اليد العليا في بداية الحرب. هذه حجة تنتشر في مصر لدى من يدافعون عن أنه كان "جاسوسنا نحن"، وتنتشر في الطرف الآخر لدى من يقولون إنه "غرر بنا ثم خدعنا" في آخر لحظة.
والحقيقة بينهما في منتهى البساطة، فحين غادر أشرف مروان القاهرة إلى باريس ومنها إلى لندن كانت السادسة مساءً هي ساعة الصفر فعلًا من وجهة النظر المصرية حين يكون آخر ضوء في ظهر الجندي المصري وهو يعبر قناة السويس. وبعد سفره تصادف أن سافر وفد عسكري مصري رفيع المستوى إلى دمشق لوضع اللمسات الأخيرة. هناك حدث خلاف بين الطرفين لأن بداية النهار تناسب السوريين أكثر من نهايته، فتدخل الرئيس السوري واقترح تسوية بتحديد ساعة الصفر لدى الثانية بعد الظهر. لم يكن أشرف مروان يعلم ذلك ولا كان له أن يعلمه وهو بعيد، وهذا هو المهم في هذه القصة، وهي قصة أكّدها لنا أمام الكاميرا عام 2003 الفريق سعد الدين الشاذلي ضمن تحقيقنا الخاص عن الحرب في ذكراها الثلاثين.
أقوى شهادة ظهرت من ناحيتنا نحن حتى الآن جاءت قبل نهاية عام 2021 على لسان اللواء أركان حرب محمد رشاد الذي كان مسؤولًا عن ملف الشؤون العسكرية الإ.سرIئ-ي.لية في جهاز المخابرات العامة المصري من 1966 حتى 1978. في سياقها يؤكد أن أشرف مروان لم يكن عميلًا مزدوجًا، بل عميلًا لإس.رIئ-يل في اتجاه واحد ضد مصر، فرض نفسه عليهم، ولم يكن له من دافع سوى دافع المصلحة المادية الشخصية".
يختلف الجواسيس في دوافعهم نحو ممارسة ثاني أقدم مهنة في التاريخ. من أبرز هذه الدوافع: الأيديولوجية، الوطنية، المال، الخضوع للابتزاز، العاطفة، الانتقام، البحث عن دور. هذه وغيرها، وغالبًا ما يكون الأمر مزيجًا من أكثر من دافع. أقواها وأكثرها احتمالًا للنجاح هو الأيديولوجية، مثل مجموعة جواسيس كيمبريدج اليساريين في بريطانيا الذين تجسسوا على بلادهم أثناء الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة لإيمانهم الأيديولوجي بالشيوعية. وكذلك الوطنية، كما في حالة الجاسوس المصري رفعت الجمال. أما أكثرها انتشارًا فهو المال. إن صح التقييم المهني الذي أصدره اللواء رشاد لدوافع أشرف مروان - وليس لدينا ما يدعونا إلى الشك فيه - فإن مسيرة مروان الشخصية والمهنية تحتوي الكثير مما يمكن أن يدعم هذا التقييم.
تتعدد المصادر التي تؤكد "اضطرار" جمال عبد الناصر الأب إلى الموافقة على تزويج صغرى بناته عام 1966 للرجل الذي أحبته، أشرف مروان. لكن جمال عبد الناصر الزعيم لم يكن ليمنحه الثقة فطبق معه المثل القائل: "احتفظ بأصدقائك قريبًا منك واحتفظ بأعدائك أقرب"، فوضعه في القصر الرئاسي تحت يد وعين مستشاره للمعلومات، سامي شرف. وبعد فترة سمح له ولابنته بالسفر إلى لندن للدراسة تحت العين الرقيبة للسفارة المصرية هناك. تشير بعض المصادر إلى أن هذه كانت بداية التربح المادي لمن هو الآن "صهر زعيم مصر والعرب" بين ممثلي الدول العربية في لندن. وعندما علم عبد الناصر بحياة البذخ التي بدأت ابنته تعتاد عليها مع زوجها أمر بإعادتهما إلى القاهرة. لا يهم الآن كثيرًا إن كان المال أو الانتقام، أو كلاهما، دافعه عندما دخل ذات يوم عام 1969 - في أوج حرب الاستنزاف العظيمة - إلى أحد صناديق الهواتف العامة في أحد شوارع لندن وأدار القرص برقم السفارة الإسرIئيلية هناك كي يعرض خدماته. لكنه بدأ مشواره معهم من هنا وفقًا للوثائق التي صدرت عنهم.
لم يكن الموساد ليرد عرضًا كهذا؛ فحتى لو لم يخرج بمعلومة واحدة مفيدة منه، يكفيه أن كشوف رواتبه الآن تضم اسم صهر عبد الناصر. لكنه فوق هذا "لم يضارعه جاسوس آخر" في ما أفاد به إسرائيل بعد ذلك لسنوات طويلة، على حد قول مدير استخباراتهم. كان من السهل لصهر عبد الناصر الذي قربه السادات بعده من مركز القيادة في عصر بدأ الفساد فيه يستشري والاقتراب فيه من العدو يتسارع أن يبدأ رحلة المليار دولار، حجم ثروته كما قُدّرت بعد وفاته.
إذا كانت طبيعة انتمائه وولائه الحقيقية لا تزال لغزًا في أذهان البعض فكذلك ملابسات موته واختفاء مذكراته التي عكف على كتابتها في المرحلة الأخيرة من حياته. لكن اللغز الأكبر يكمن في تعامل مؤسسة الحكم في مصر مع الأمر بما يتناقض تمامًا مع شهادة اللواء محمد رشاد ومع ما يقبله العقل من وثائق وشهادات رفيعة المستوى من الجانب الإس.رIئ-يلي، فقد اعتبره مبارك "وطنيًا مخلصًا أدى العديد من الأعمال الوطنية التي لم يحن الوقت للكشف عنها" على حد قوله، وأوفد ابنه جمال مبارك مع اللواء عمر سليمان إلى طليعة الجنازة. ويبقى الأمر كذلك حتى اليوم.
هذا هو اللغز الحقيقي في قصة "الملاك" الذي سقط.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق