لا يكن لديك شك؛ فهذه المشاهد الملحمية التي تطل الآن على العالم من غز٥ لبشر يبدون كالوحوش الضارية بحثًا عن طعام إن هي إلا مشاهد محسوبة مدروسة في فيلم له مخرج ومنتج. الهدف واضح: استخدام الجوع سلاحًا نحو الإباده، واستخدام "نزع الكرامة" سلاحًا نحو الطرد و "التلويث العرقي".
من بين تعريفات علم النفس لهذا السلاح أنه "الحط المتعمد من منزلة فرد أو جماعة أو شعب في سياق عملية تخريب نفسي تنزع عنهم الإحساس بعزة النفس والشرف والكرامة"، سواءٌ في مشاعرهم أو في عيون الآخرين.
بهذا المعنى، لا يعتبر هذا سلاحًا جديدًا؛ بل ارتبط بالسلوك الإنساني منذ بدء الخليقة وإن اختلف معناه باختلاف السياقات الثقافية وخصوصيات الحقبة التاريخية.
في روما القديمة قبل الميلاد، مثلًا، كانوا يجبرون بائعات الهوى على ارتداء سترة رجل رمزًا إلى العار، كما حدث بعد ذلك في فرنسا للنساء اللائي خضعن جسديًا للنازيين، وفي العصور الوسطى في أوروبا كانوا يستعرضون اللصوص أمام العامة وقد علقوا لافتات حول أعناقهم تحط من كرامتهم، وهو ما تطور بأساليب أكثر ابتكارًا في أماكن أخرى من العالم حتى وصل إلى قرى مصر في شكل مشهد حمار يمتطيه "حرامي" ووجهه في اتجاه مؤخرة الحمار وهو يلف شوارع القرية وحاراتها.
لكن هذا السلاح ينتقل إلى مستوى آخر حين يلتقي بالعنف المدروس في ساحات الحروب وفي دهاليز المعتقلات ومعسكرات الأسرى.
ولا يوجد في العصر الحديث من هو أمهر من الإسرIئيليين والأمريكان في هذا "الفن" وقد طوروا في أجهزتهم أقسامًا لخبراء العلوم النفسية واستحدثوا أساليب وبرامج مشوهة لكسر الإرادة عن طريق نزع الكرامة.
لو كنت فلسطينيًا عام 1948 فلا بد أنك تعلم ما فعلوه بالأطفال والنساء والرجال العُزّل في طريق "التلويث العرقي" مما وثقه مؤرخوهم هم أنفسهم. ولا بد أنك تعلم كيف حولوا حياة من تبقى منهم إلى جحيم يومي من خلال اقتحام حرمات المساجد والبيوت ومن خلال الحواجز ونقاط التفتيش التي قطعت أوصال الضفة والقدس. ولو كنت شاهدت تحقيقنا، "الطريق إلى عتليت"، فلا بد أنك استمعت إلى شهادات أسرى 1967 من جنود مصر عن أساليب التجويع والإهانة بهدف كسر الإرادة و"إعادة التأهيل" النفسي والذهني.
ولو كنت حديث العهد أو المعرفة، فلا بد أنك لاحظت حرصهم - في إطار عدوانهم الراهن على غز٥ - على تصوير الأسرى عرايا مكتوفي الأيدي معصوبي الأعين وقد كدسوهم على ظهور شاحنات مفتوحة للعيان كما تُشحن الحيوانات.
حتى من قبل تأسيس وكالة الاستخبارات الأمريكية منتصف القرن الماضي، عكف الأمريكان على تطوير أساليب وبرامج تهدف إلى كسر الإرادة عن طريق نزع الكرامة. أعرف بعضًا من علماء النفس الذين وظفوهم لتطوير ما سموه بعد ذلك "أساليب التحقيق المعززة"، وهو تدليل وقح لكلمة "تعذيب"، تابع العالم كله فصولها في معتقلات العراق وأفغانستان وغوانتانامو ومعتقلات في منطقتنا وضعتها أنظمة عربية تحت أمرهم.
قبل أسبوعين، جلس ترمب بين زعماء الخليج كي يقول: "أتمنى مستقبلًا من الأمن والكرامة للشعب الفلسطيني" ولكنه استطرد في رأيه أنه لا كرامة لهم إلا إذا …". ولم يرد عليه أحد.
بناءً على دراسات علمية، ينتهي الحال بالفاعل وقد خربت نفسه بأكثر مما كان يريد أن ينزع به الكرامة عن ضحيته. هذه فطرة الله في خلقه. ويقول لنا الضابط في مكتب التحقيقات الفيديرالي (إف بي آي) سابقًا، جاك كلونان أمام الكاميرا:
“There will be consequences - guaranteed G.U.A.R.A.N.T.E.E.D”.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق