شعبان يوسف كان مرة عامل استعراض فني أنطولوجي مثير لمسرحية "المومس الفاضلة". وتطرق في سرده إلى ترجمة الاسم والتفضيلات التي كان يحبذها بعض الكتاب والمشاهير والعاملين في المجالات الفنية والثقافية والعسكرية والتنظيمية والصحفيين والنقاد.
يهمني مثلا أن آراء كثيرة اتفقت على أن سميحة أيوب في بطولتها للمسرحية عام 1958 لم تتنبه إلى نقطة التحول الدرامي والمفاهيمي في سلوكياتها والدوافع الدرامية لذلك من أجل أن تبرز هذا للجمهور. مع العلم بأن هذه مشكلة المخرج وليست مشكلة الممثل.
أعتقد أن هذا أمر طبيعي في سنوات الخمسينيات التي كان المسرح المصري يعبر فيها من مرحلة التقليد و"التعريب المخل" و"مسرح الهتاف والصوت العالي" و"التمصير المخل" إلى مسرح يتسم بالتنوع المحلي والعالمي في سياق مشروع ثقافي له ملامح محددة، بعيدا عن تلك "الواقعية الاشتراكية" التي ذكرها شعبان يوسف في مقاله، لأن الواقعية الاشتراكية كانت في هذا الوقت قد بدأت أولى كبواتها في بلد جدانوف وجوركي اللذين اخترعاها وكادا يشوهان بها الإبداعات العظيمة للأدب والثقافة والفنون الروسية.
وحيث كان ميخائيل شولوخوف قد فاز بجائزة نوبل عن رواية الملحمية "الدون الهادئ"، وفاز بوريس باسترناك بنوبل عن روايته "دكتور چيفاجو". والروايتان لا علاقة لهما من بعيد أو قريب بما يسمى بالواقعية الاشتراكية. ناهيك عن أن حركة الأدب والثقافة داخل الاتحاد السوفيتي كانت تمور بالممنوعات وتعج بالمطبوعات السرية التي لا علاقة لها لا بالواقعية الاشتراكية، ولا بما تصدرة السلطات السوفيتية وحزبها الغرائبي للخارج من أجل تجنيد فقراء وساسة الدول الأخرى للعمل من أجل مصالح النظام السوفيتي في معاركه مع منافسيه في الغرب.
عموما هذا ليس موضوعنا. نعود إلى السرد المهم الذي طرحه شعبان يوسف ليستعرض لنا ظروف وملابسات إحاطات بالعرض من جهة، وبالنص وبترجمته من جهة أخرى، وبآراء النقاد والفنانين مثل علي الراعي وعبد القادر القط ومحمد القصاص ونبيل الألفي ومحمد مندور، وضباط يوليو من أمثال ثروت عوكاشة وخالد محيى الدين وأحمد حمروش. وكذلك العديد من الصحفيين من أمثال أنيس منصور ومحمود السعدني وعبد الفتاح البارودي وغيرهم...
من الواضح أن نفس الأمر يتكرر الآن ولكن بإيقاع قد يكون مختلفا وفي مساحة مغايرة من حيث الحجم أيضا. وهو ما ذكره شعبان يوسف نفسه في مادته الضخمة والثرية والمليئة بالتفاصيل الخاصة بالعرض وبما حوله أيضا.
الخطير في هذه المادة، وعلى الرغم من تكرار الكثير من التفاصيل التي يفصل بينهعا حوالي 60 عاما، أن المجتمع يبدو أنه لم يتقدم، بل حدث العكس. ولن نبالغ ونقول إن الإقبال الجماهيري على العرض كان عظيما ورائعا، أو أن الشعب احتفى بالعرض، ولن نبالغ في تأويل العرض وعلاقته بعظمة المجتمع والشعب العظيم. بدون أي مبالغة، فنحن نعرف أن المسرح فن نخبوي، وأن مسرح سارتر أكثر نخبوية. ما يعني أنه في عام 1958 كانت الأمور متواضعة وتدور في حيز متواضع.
لكن "الآلة الثقافية" قادرة مثل "الآلة الإعلامية" على تضخيم الأمور والتلاعب بالشعارات وهو ما كان منتشرا في تلك الفترة في الفن وفي الثقافة وفي السياسة وتصنيع الصواريخ وغزو الفضاء وإنشاء المفاعلات النووية وغيرها. ولكن كان من المفترض أو من المنطقي أن يحدث تقدم أو تطور ما، أو حتى تحدث كبوات ثم نهوض. ولكن الملاحظ أن الأمور سارت بطريقة غريبة، ولكن يمكن تفسيرها، لأن التاريخ لا يسير على خطوط مستقيمة في نهاية المطاف. وبعد ما يقرب من 15 عاما بدأت ملامح "الصحوة" المصرية العظيمة، وانتهى بنا الأمر إلى ما نحن فيه الآن.
ولكن يبدو أن الصحوة ليست هي كل الأسباب، لأن هناك أسبابا كثيرة قد تكون سابقة على هذه "الصحوة" المرعبة التي أخرتنا ما يقرب من قرن إلى الوراء. لكن هناك أسبابا أخرى كانت موجودة في الخمسينيات والستينيات. ربما كان حالة الاستقطاب ليست بتلك الحدة التي هي عليها الآن، وربما كان عنف السلطة وقمعها في تلك الفترة، وبالذات للتيارات الشيوعية وحملات الاعتقالات الواسعة والمنظمة، وطرح أولويات مثل معاداة الاستعمار والصهيونية، ومعاداة أمريكا والغرب، وطرح النظرية الثالثة ومبادئ الإشتراكية في الإسلام.. كان كل ذلك يلعب دورا في تهدئة حالة الاستقطاب، على عكس ما يجري اليوم في البلاد من استقطاب حاد، تلعب في تزكيته السلطة وأجهزتها الأمنية ونحبها المثيرة للسخرية دورا رديئا ومنحطا، يقود إلى خسائر في الأرواح والأملاك والمستقبل.
التدقيق في سرد شعبان يوسف يقودنا لطرح العديد من الأسئلة المهمة الخاصة بتلك الفترة، وبالفترة الراهنة، ويجعلنا نقف لنتأمل الكثير من الظواهر الفنية والجهود الجماعية والفردية، ومساحات الأمل التي كانت في قلوب الناس وأرواحهم رغم عنف السلطة وقمعها آنذاك. غير أن هذه المساحات انهارت بهزيمة 1967 واكتشفت النخب أنها كانت تعمل بجهد وإخلاص وصدق ولكن ليس في الاتجاه المطلوب، لأنه كان هناك من قام بتغيير اتجاهات الاسهم المرسومة على اللوحات التي تشير إلى المستقبل!!!
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق