المأساة لا تكمن فى هزيمة الجيش المصري سنة ٦٧. فكل صراع فيه منتصر ومهزوم. والمهزوم فى الدور رقم 'س' يواصل حياته وسعيه وتنمية قدراته لينتصر بعد ذلك فى المباراة رقم 'س+١' أو 'س+٢' أو حتى 'س+١٠'. أما أن يقضى حياته وهو يندب حظه ويلطم خديه، فما هذا إلا دلالة على خلل نفسي عميق، ونرجسية مَرَضية تحتاج إلى علاج.
من فى الدنيا لم يُهزَم؟ فرنسا، مثلاً، هُزمت هزيمة شاملة، وداس أعداؤها على أعلامها فى ميدان الكونكورد. (وهذا لم يحدث لمصر.) وها هي اليوم دولة عظمى ذات حضارة راقية ومستوى معيشة مرتفع، يشتهى الناس زيارتها للإستمتاع برقيها وحضارتها.
اليابان هُزمت هزيمة شاملة ودٌمرت تماماً، (وهذا لم يحدث لمصر،) ثم أعادت التعمير وأنشأت صناعة لا نظير لها، ومستوى معيشة تُحسد عليه، ونفس الشيئ حدث لألمانيا. الصين هُزمت وأهينت وداس أعداؤها على رقبتها مرات عديدة، (وهذا لم يحدث لمصر،) ثم نهضت وتقدمت وصارت قطباً من القطبين الرئيسيين فى العالم.
مصر نفسها هَزَمت وإستَعبدت شعوباً أخرى، ثم تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال. هل قضى الحثيون الثلاثة آلاف سنة التى مضت منذ هزيمتهم على أيدى الجيش المصري يندبون ويلطمون ويلعنون الرجل الذى كان يقود بلادهم عندما هزمها المصريون؟
ما هذه النرجسية؟ ما هذا الجنون؟ كل الشعوب ذاقت النصر أحياناً، والهزيمة أحياناً أخرى، وإستمرت عجلة الزمان تدور، وطاحون التطور يطحن. ثم … هل كانت الهزيمة شيئاً لم تعرفه مصر قبل أن جلبها عليها "إبن البوسطجي"؟ … هراء!
مصر هُزمت فى تاريخها عدداً من المرات أكثر مما يمكن حصره هنا: هزمها الحثيون، وهزمها الفرس، وهزمها الإغريق، وهزمها الرومان، وهزمها العرب، وهزمها الأتراك، وهزمها الفرنسيون، وهزمها الإنجليز. ولم يأخذ أي من هؤلاء جزءاً منها لعقدين أو ثلاثة، بل أخذوا "الجلد والسقط،" وجعلوا المصريين كلهم عبيداً يدفعون الجزية والخراج - لقرون أو لعشرات من القرون.
أنظروا إلى ما فعلت اليابان، وما فعلت ألمانيا، وما فعلت الصين، وفرنسا، وغيرهم من البلاد التى إمتصت الهزيمة ثم وقفت على رجليها لتواصل الحياة والتقدم … ماذا فعلتم أنتم؟ هل أصبحتم رواداً فى العلوم والصناعة؟ هل أنشأتم جامعات يأتى إليها الطلاب من كافة الأنحاء؟ لا! … برقعتم نساءكم وغيبتم أطفالكم وتكاثرتم كالأرانب دون إنتاج..
بنيتم أكبر مسجد وأكبر كنيسة، و تضرعتم للإله أن يرسل لكم الفرج فى صورة معونات. من قال لكم إن الإله يحب دور العبادة الشاهقة؟ أين ذلك النص وأين تلك الآية؟!
يقولون: "المشكلة هي أن "إبن البوسطجي" كان دكتاتوراً !" يا سلام! هذا والله إكتشاف خطير! مَن من حكام مصر (قبله أو بعده) لم يكن دكتاتوراً؟ هل كان مرنبتاح حاكماً ديموقراطياً؟ أم قمبيز؟ أم بطليموس؟ أم محمد بن أبى بكر؟ أم الحاكم بأمر الله؟ أم عباس حلمى الثانى؟ … لا نعرف إلا ٢٩ سنة يتيمة (من ١٩٢٣ إلى ١٩٥٢) رأينا فيها حكماً كوميدياً فيه قشور من الديموقراطية، وكان ذلك أمراً فرضه الإنجليز بالكرباج، وأداره المندوب السامي للتاج البريطاني .
المشكلة ليست فى قائد أو دكتاتور … المشكلة فى الشعب نفسه. هناك خلل فى القيَم والمعايير المجتمعية، تجعل المجتمع معادياً للعقلانية وللعلم وللتقدم، ومدمنا على التخلف والتواكل والمحسوبية والواسطة والخطف والنتش والهمبكة. لم يكن النظام دكتاتورياً قبل 'إبن البوسطجى'. ومع ذلك هُزِمت مصر سنة ٤٨. وكانت الهزيمة مشينة على وجه خاص لأن المنتصر لم يكن دولة متقدمة علمياً و تكنولوجياً وتحظى بتعضيد قوى عظمى، (كما فى ٦٧،) بل كانت عصابات وشراذم من المهاجرين والمغامرين.
كفوا عن الندب ولطم الخدود. عبد الناصر مات منذ أكثر من نصف قرن. وإنمحى كل ما فعله، لومه على بلاويكم ما هو إلا نوع من التهرب من مواجهة الحقائق المؤلمة.
إذا كان هناك من يكرهه لأنه أمم "عربة الترمس" التى كان يملكها الوالد، فهذا أمر لا إعتراض عليه. ذلك التأميم كان حماقة لا لزوم لها. لكن دعنا نسمى الأمور بمسمياتها، ولا نتظاهر بأننا نكرهه بسبب دكتاتوريته أو بسبب ٦٧.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق