في مثل هذه الأوقات من كل عام، يعود الجدل بلا كلل ولا نهاية بين أنصار عبد الناصر وأتباع حسن البنا. وما بين تمجيد أحدهما وتحقير الآخر، تضيع الحقيقة في زحام العاطفة، ويتحول التاريخ إلى ساحة صراع أيديولوجي لا يرحم.
لكن لا يمكن لأي قراءة تاريخية أو سياسية أن تبلغ حد الإنصاف، إذا انطلقت من هوى شخصي أو خصومة أيديولوجية. فالحب حين يصير عبادة، يخرس العقل ويصمّ الوعي، والكراهية حين تتحول إلى ثأر قبلي، تعمي البصيرة وتزيف الوقائع.
ولهذا، فإن تقييم الرموز الكبرى — من الزعماء والقادة، سواء في السلطة أو في المعارضة — لا يصح أن يتولاه من يجهل أدوات النقد، أو من تحركه مصلحة، أو من يسكنه ادعاء الزعامة الكاذبة. فالتاريخ لا يُكتب بالهتاف، بل يُقرأ بمنهج وحياد صارم، ومقارنة دقيقة، وفهم متجذّر للسياقات الزمنية والسياسية والثقافية، داخليًا وخارجيًا.
انطلاقًا من هذا الوضع، لا قداسة لعبد الناصر ولا عصمة للبنا. لك أن تنتقد الأول أو الثاني، أن ترفض أفكارهما أو تعارض مشاريعهما، لكن لا تفعل ذلك بعين غاضبة أو قلب مأسور. بل بمنهج علمي رصين، وإلا تحوّل النقد إلى لغوٍ سياسي، أو عبادة خرساء تُنزّه الزعيم عن الخطأ، وتضعه في مصاف الأنبياء، معاذ الله.
ورغم التناقض العميق بين الرجلين — في الرؤية والأداة والغاية — فإن ما لا يمكن إنكاره هو أن كليهما شكّل لحظة فارقة في التاريخ المصري الحديث، وأعادا تشكيل خريطة النفوذ المصري في الإقليم. كلاهما، بطريقته، أثبت أن مصر — بما لها من عمق حضاري وثقل بشري — قادرة على إلهام محيطها العربي والإسلامي.
فالقومية العربية، التي كانت فكرة نخبوية قبل ثورة يوليو، تحولت على يد عبد الناصر إلى تيار شعبي جارف. معه فوُلِدت أحزاب قومية في شتى الأقطار العربية ، واندلعت حركات التحرر الوطني من ليبيا إلى الجزائر، ومن اليمن إلى سوريا والعراق. وتحت عباءته، تأسست منظمة التحرير الفلسطينية، وانطلقت "فتح" تقاوم الاحتلال، واحتشدت الجماهير تهتف باسم القاهرة عندما تعرضت للعدوان مرتين ، فى عام 1956، وفى الخامس من يونيه 1967،،
وفي المقابل، لم يكن لحركة الإسلام السياسي حضور فعّال وواسع النطاق قبل أن يطلق حسن البنا مشروعه الكبير: جماعة الإخوان المسلمين. تلك الجماعة التي تحولت من نواة صغيرة في مدينة الإسماعيلية إلى تنظيم عابر للحدود، أعاد تشكيل الخطاب الإسلامي المعاصر، ونافس الهيمنة التقليدية لمؤسسات الفقه والخطابة الخليجية.
لقد كان لهذا التيار تأثير زلزالي؛ من إيران التي أطاحت بشاهها عام 1979 مستلهمة خطاب الإخوان، إلى تركيا التي أعادها حزب العدالة والتنمية إلى جذورها الإسلامية بعد عقود من التغريب، إلى فلسطين التي أنجبت حماس والجهاد الإسلامي، في لحظة تلاشى فيها أو خفَت صوت حركة "فتح"، أو بالأحرى إستسلمت وأنهت دورها النضالى ،
بل وحتى فى لبنان يمكن القول أن تأثير الإسلام السياسى المصرى إمتد الى هناك فحزب الله فى النهاية هو تيار سياسى إسلامى مقاوم بصرف النظر عن المذهب ، مع الوضع بالاعتبار الدور الايرانى الداعم ، كذلك نفس الأمر يمكن قوله عن جماعة انصار الله اليمنية المجاهدة،
فالحقيقة أن هذا المد ( القومى العربى والاسلامى السياسى ) لم يكن مجرد انتقال شعارات قومية ثورية، ولا تكرار لدروس دينية سياسية اسلامية فقط، بل كان أيضا انعكاسًا لدور وتأثير مصر الفكري والروحي في محيطها، حين يتحول الفكر إلى مشروع، والقيادة إلى إلهام.
إن قاسم الرجلين المشترك — رغم خلافهما الذي وصل إلى الدم — هو أن كليهما أعاد لمصر موقع القيادة، لا بوصفها مركزًا جغرافيًا فحسب، بل باعتبارها مركزًا فكريًا وروحيًا. فكلاهما — رغم العثرات والأخطاء وربما الكوارث — جسّد لحظة نهوض مصري، تفرض نفسها على الواقع العربي والإسلامي.
في النهايةيمكن القول أننا لا نحتاج أن نختار بين عبد الناصر أو حسن البنا، بقدر ما نحتاج أن نفهم كيف صاغ كلٌّ منهما مشروعًا مصريًا قادرًا على التأثير.
وإذا كنا نبحث اليوم عن طريق، فلن نجد ضالتنا في عبادة الماضي، بل في استخلاص الدروس من أولئك الذين امتلكوا الجرأة على الحلم، والقدرة على تحويله إلى واقع. فالريادة لاتتحقق بشعارات فارغة،ولا بالدروشة الماضوية، بل برجال يملكون مشروعًا مبتكرا يستلهم كافة دروس وتجارب الماضى
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق