ربما لم تكن جديدة تماما تلك النظرية التي أكدها الواقع العربي منذ أكثر من 50 عاما حينما علت نبرة الأنا في مصر، وبدأت معها نظريات شعبوية تنتشر حيث ترددت جمل مثل "أخذنا أيه من العروبة والقومية" وعبارة "مصر فرعونية لا عربية" وما تبع ذلك من نظرية الانكماش على الداخل ورفع اليد عن قضايا الأمة، أقول هذا حتى أحمل مصر وشعبها ما حدث في نصف القرن الماضي.
لقد تمدد البذر الذي زرع في قلب الأمة وصار أشجارا وفروعا وأمتلأت الخريطة العربية من المحيط إلى الخليج بتلك الثمار فصار مصر أولا ثم توالت ليصبح العراق أولا، سوريا أولا، الكويت أولا، قطر أولا، صارت كل الأقطار أولا ومقدمة على أي قطر جار أو صديق، وترعرت الأنا في كل الجغرافيا.
انتشار شعبي مبكر
الأن بينما يقتل ويحرق ويموت جوعا وعطشا رجال، نساء، شيوخ، سيدات، وأطفال بالجوار وعلى مقربة من كل عربي صارت نظرية الأنا أو كما اسميها "أبيع نفسي" مقدمة داخل كل نفس عربية إلا من رحم ربي، صار بيتي، أولادين طعامي، وشرابي مقدم على أي مشاعر أنسانية، وصارت نظرية جحا عن الحريق البعيد عن منزله هي القاعدة.
فمادام القتل هناك وأنا آمن فما ضير، ومادام الجوع ينهش أطفال غيري فلأكن جيدا، البحث عن الحلول الفردية صار القاعدة ومما غيره يبقى "خلينا في حالنا" تلك النظرية سائدة في الأمة التي تحمل الرسالات الإنسانية للعالم. بينما العالم في الغرب يتحلى بأعلى صفات من الأنسانية ويجوب شوارع أوروبا والغرب والشرق دفاعا عن الأطفال والنساء والشيوخ الذين يواجهون المحرقة.
قديما في مواقف كثيرة من التاريخ العربي والإسلامي كانت تظهر تلك النظرية بين الساسة والقيادات العليا في الأمة والدولة، وبعدما حدث في نقسيم جغرافيا الأمة إلى دويلات متفرقة استطاع العدو دائما أن يجد بين أبناء هذه الدول من يرفع شعار "أبيع نفسي لكل مشترا آت" تبدو النظرية كوميديا لوجودها في فيلم لممثل بجحم عادل غمام فنان الكوميديا الأول.
الفن يرصد
فيلم مرجان أحمد مرجان يتناول قضية البيع النفسي، فهذا رجل أعمال عصامي جاهل يتبرأ منه الأبناء لجهله، ويقوم بشراء كل شيء بالمال يشتري المكانة، والجوائز، البطولات، والذمم بالأموال، فقد اشترى أساتذة الجامعة، اللجان الثقافية، حكام كرة القدم، مخرجي المسرح، وفي لحظة مأسوية فكر أن يقدم قرابين لله من أجل شفاء أبنته، وقد انتشر في السنوات الإخيرة كثيرا من لقطات هذا الفيلم ساخرة من الحال المصري والعربي، والذين يحاول شراء التاريخ والحضارة، والرضا من الأعداء بالمال.
نفس نظرية الأغنية التي انتشرت سرا في سبعينات القرن الماضي لأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام "شرفت يا نيكسون بابا" وهي التي تصف خال مصر عندما زارها لأول مرة رئيس أمريكي ريتشارد نيكسون في مارس 1974، وقد توسعت السينما المصرية في فيلم "زيارة السيد الرئيس" لترسم أحلام المصريين الفردية بزيارة نيكسون الذي سيوزع الأحلام على مصر والمصريين ويعم الرخاء، وهذا ما أكده الثنائي نجم/ إمام في أغنية جيسكار دستان الرئيس الفرنسي بعد زيارة نيكسون بعام، حيث أحلام الملابس والعطور الفرنسية.
لا زالت نظرية أبيع نفسي التي كنت استغربها في أوائل التسعينات من بعض الشعراء والكتاب في مقاهي القاهرة القديمة لتصل إلى رؤساء دول والغريب أن بعض المفكرين بدأوا يأسسوا لتلك النظرية في مواجهة نظرية الثورة العربية، والأمة الواحدة التي أسس لها مفكرين عرب كبار أمثال جمال حمدان، عصمت سيف الدولة، عبد الوهاب المسيري، وغيرهم من المفكرين بينما حمل شعلتها الزعيم المصري العربي جمال عبد الناصر.
في بداية التسعينات كنا نتشكل مجموعة كبيرة من أصحاب الأحلام وكان بيننا كتاب دراما، شعراء، صحفيين نلتقي في مقاهي القاهرة، ومنازلنا الخاصة نتبادل الأراء، والإنتاج الإبداعي ونناقشه فيما بيننا، وفي أحد مقاهي القاهرة كان يأتي بعض الشعراء، والملحنين، وكتاب الدراما المشاهير ليقتنصوا أحد هؤلاء المجهولين مستغلين الحالة الاقتصادية والاجتماعية لبعضهم فيأخذون إبداعهم في مقابل حفنة جنيهات، ثم يتحول العمل إلى مشهور وكبير بوضع الأسم الجديد عليه، وعندها يندم صاحب العمل ويسير في شوارع وعلى مقاهي القاهرة صائحا "أنا عاطف الأشموني مؤلف الجنة البأئسة" وهي بالفعل بأسة لدرجة لا نتخيلها.
في سدة الحكم
لكن زمن عاطف الأشموني صاحب اللقيمات البسيطة التي تكفي، وزمن شعراء التسعينات صاحب الجنيهات القليلة ولى، وجئنا إلى زمن الملايين الغير محدودة، وأبار النقود التي تفتح للموهوبين من الفقراء، اصبح الشهير يأخذ ملايين كثيرة وبالعملة الصعبة ويعطي صاحب الأصل بعضا منها فيصبح صاحب حياة تمتلأ بالرفاهية والرخاء مقابل إلا يعطى أسما على إبداعه.
نظرية تكبر من الفرد إلى المجتمع ومن المجتمع إلى الساسة لتصل إلى رأس الحكم، كل ما عليك أن تتنازل ثم تتنازل، ثم تركع، فتجثو أنت ودولتك، لا تنظر إلى جوارك في الحكم، لا تنظر من في تلك البقعة من أرضك، من يسيطر علىماذا؟ سنفتح لك كل الخزائن لتمتلأ بطون وجيوب شعبك بالطعام والأموال، سنضخ لك كل ما تحتاج، كل ما عليك فعله أن تتنازل عن الكرامة والسيادة والاستقلال، ولا تنظر بجوارك أترك من يرتع في أرضك يرتع، إذهب إلى حيث نريد نحن، نحن وفقط.
سنوفر لك خبراء، مفكرين، مثقفين، صحفيين، وبعض الجماهير ليشيدوا بحكمتك التي تختال على الشعب، ويضعوا أسس نطرية جديدة تنتشر وتتوغل لتصبح صاحب نظرية سياسية تأكل القديم الذي لا يزال يعيش في أوهام المقاومة، الأمة الواحدة، الاستقلال والسيادة "ستأكل نظريتك الجديدة الأخضر واليأبس" وليرفع شعار أبيع نفسي في كل أرجاء الوطن، فقد بدأ مشوار النطرية بالأحلام على رأسهم الحكم الأمريكاني بالرفاهية، والحلم الصهيوني بالديمقراطية شعبويا، والآن أصبح سلطويا أي على رأس السلطة.
أخيرا
لن تمضي هذه النظرية كثيرا في أمتنا سينهض شعبها من تحت ركام غزة ليبني أمة تعرف جذورها وقيمها، وإيمانها وعقيدتها، أمة تدرك معنى الإنسانية، والوحدة وكيف تتسيد العالم، سينظر العالم إلى نماذج التضحية والفداء والصبر والصمود، لن يلتفتوا إلى الذين باعوا والذين اشتروا، سيخرج من بين أيادهم ومن خلفهم من يعيد للأمة مجدها، أمة لا تعرف استسلام ولا تخاذل ولا خنوع، سيذهب أصحاب نحن أولا إلى قاع التاريخ، وسيبقى دائما أبطال المقاومة في فلسطين، سوريا، مصر، العراق واصحاب المجد في اليمن، ليجعلوا ليل ونهار الكيان اللقيط جحيما حتى الرحيل.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق