بمعنى من المعاني، كان يوم أمس بالنسبة لإسرائيل في مواجهتها مع إيران معادلًا ليوم 9 أكتوبر 1973 في مواجهتها مع مصر من حيث تقديرها للحالة الميدانية لصراع وصفته في الحالتين بأنه صراع وجودي، رغم الاختلافات الكبيرة بين الحالتين.
في ذلك اليوم، هرول السفير الإسرائيلي في واشنطن إلى غرفة الخرائط في البيت الأبيض كي يستنجد بوزير الخارجية الأمريكي، مهندس الأمن القومي، هنري كيسينجر، الذي كان يدير أزمة حرب أكتوبر وغيرها في ظل شلل الرئيس، ريتشارد نيكسون، بعد فضيحة ووترغيت.
ذُهل كيسنجر وهو يستمع إلى تفاصيل الخسائر في الأسلحة والمعدات، وحين نظر إلى القائمة الطويلة مما تحتاجه تل أبيب من واشنطن، الآن لا غدًا. ذلك أنه كان قد رفع إلى الرئيس قبلها بيوم واحد تقريرًا عن الحالة الميدانية - بناءً على تقديرات الإسرائيليين أنفسهم وتقديرات الاستخبارات الأمريكية - جاء فيه:"مصر لا تريد مواجهةً معنا في الأمم المتحدة، والسوفييت لا يريدون مواجهةً معنا على الإطلاق. سيركز موقفنا العام على استعادة وقف إطلاق النار على حدود ما قبل الحرب. سيصرخ العرب بأنهم يُحرمون من حقوقهم الفطرية. ولكن، بحلول الخميس (11 أكتوبر)، سيركعون أمامنا متسولين من أجل وقف إطلاق النار".
كان كيسينجر يهوديًا صهيونيًا لا شك في انتمائه، لكنه في الوقت نفسه، ينتمي إلى طبقة نادرة من دهاة السياسة في تاريخ البشرية. وكان - بعد استلامه البرقية الشهيرة من نظيره المصري يوم 7 أكتوبر، ثاني أيام الحرب - قد عقد العزم على إدارة الحرب بحيث لا تنهزم إسرائيل ولا تنتصر في الوقت نفسه بصورة كاسحة. كانت عيناه، كما ذكر في مذكراته، على توفير ما يكفي من الشروط التي يمكن أن تقبلها الأطراف جميعًا بعد وقف إطلاق النار نحو ما صك له عبارة "عملية السلام الشامل العادل"، أو ما يمكن أن يصفه البعض بعد هذه السنوات كلها ب "الخازوق" الأكبر.
من أجل هذا، كان لابد من أن يكسو بلاده برداء من الحياد رغم ما قد يبدو عكس هذا من وراء ستار. لاحظ تعبيره الكاشف عن أنهم سيركعون "أمامنا" وقارنه بزلة لسان ترمب قبل يومين حين قال "نحن" الآن نسيطر على سماء إيران بينما كان لا يزال يتظاهر بسياسة الحياد.
رفض كيسنجر لقاء رئيسة الوزراء وقتها، غولدا مائير، قبل أن يسمح ببدء تنفيذ العملية “عشب النيكل"، وهي جسر جوي مفتوح لنقل أكثر من 22 ألف طن من الأسلحة والذخيرة والمعدات إلى إسرائيل يوم 14 أكتوبر.
إذا كان من الصعب مقارنة الظروف والملابسات بين الحالتين، فإن من الصعب أيضًا مقارنة داهية سياسي مثل كيسينجر بتاجر شقق مثل ترمب. الأول رسم مستقبل الشرق الأوسط كله حتى هذه اللحظة، والثاني يخضع لآخر صوت ينفرد بأذنه، وفي هذه الأيام والساعات الحاسمة يهرول نتنياهو للقيام بهذا الدور، بشكل مباشر، كما حدث أمس في اتصال هاتفي طويل، أو غير مباشر من خلال الضغط المتواصل من اللوبي. إذا كانت رئاسة الولايات المتحدة جزءً من أحلامك صدقني أنت لا تريد أن تكون ترمب في هذه الساعات.
في البداية كان نتنياهو منشغلًا بإحراز 17 هدفًا في أول 5 دقائق من المباراة إذا تحدثت بلغة كرة القدم، قبل أن تدفع به الحسابات إلى أذن ترمب المتخبط وقتها في تصريحات متناقضة مصبوغة بتماهرات تاجر الشقق من مثل "على إيران أن تتفاوض الآن قبل أن تخسر كل شيء".
اللحظة الفارقة في تصريحات ترمب جاءت حين غادر قمة الدول السبع الكبار في كندا على عجل. لماذا؟ لأن نتنياهو بدأ يقلق وهو الآن يريد انضمام أمريكا بشكل مباشر إلى الحرب لإنهاء إيران.
حساباته التي يعتمد عليها تتلخص في أن لدى إيران نحو 2000 صاروخ قادر على الوصول إليه، استطاع في الموجات الأولى تدمير جانب منها ومن منصاتها، ثم بدأ الهجوم المضاد فاستهلكت إيران مما تبقى نحو 400 صاروخ حتى الآن، وهو ما قد يفسر انخفاض كثافة الرد الإيراني ربما ترشيدًا لما تبقى. هذه كلها أرقام إس٠رIئ-يلية ربما لا تكون بالضرورة دقيقة؛ فلا أحد يتطوع بالكشف عن كل ما يعلمه، خاصةً في وقت الحرب التي قد تحسمها أحيانًا حيل دعائية مقصودة.
الأقرب إلى الموضوعية هو جس درجة حرارة القلق التي ينجح الإس.رIئ-يلي في حقن جسد صناع القرار في واشنطن بها، ومن الواضح أن هذه الدرجة ارتفعت بشكل ملحوظ في اليومين الأخيرين. ذلك أن هؤلاء يعلمون الآن أن نسبة نجاح المقذوفات الإيرانية في اختراق منظومة الدفاع الجوي المعقدة تزيد على 10% وهو أكثر من ضعف النسبة التي كانوا يتوقعونها، وأن المنظومة كلها ستتداعى في غضون من 10-12 يومًا إذا استمر الرد الإيراني على نفس الوتيرة. ناهيك طبعًا عن أن الأمر يتطلب في كثير من الأحيان صاروخًا تكلفته 285 مليون دولار لاعتراض مُسيّرة محلية الصنع قد لا تكلف أكثر من 20 ألف دولار.
السياسة الترمبية المعلنة في هذه الساعات الحاسمة هي سياسة صفرية: الاستسلام أو الهلاك. لكن الأقرب إلى الواقع أن هذا من أساليب تاجر الشقق حتى إشعار آخر. إذا كان النظام الإيراني في موقف صعب يكاد أن يكون مستحيلًا، فإن نتنياهو في موقف ربما يكون أصعب بعد اعتلائه ثورًا جامحًا في طريق "كل شيء أو لاشيء على الإطلاق"، سواء بالنسبة لشعبه أو بالنسبة له هو سخصيًا، بينما يجر معه ترمب الذي يعلم التاجر داخله أن ثمن الورطة قد يدفعه من رصيده الشخصي لدى أتباعه ومن تعقيدات إقليمية ودولية قد تقلب الطاولة رأسًا على عقب.
ستسمع الكثير من الكلمات الضخمة من كل اتجاه، والكثير من الدعاية والتعتيم والتضليل، لكن حقائق التاريخ لا تكذب من أهمها في هذه الساعات أن قائدًا لإسرائيل لا يلجأ عادةً إلى ممارسة مثل هذا القدر من "الالتماسات" والضغوط على صانع القرار الأمريكي إلا إذا كان حقًا في ورطة. الفارق هذه المرة في تقديري هو ما تعنيه "الورطة" من وجهة نظر نتنياهو، لأنها بكل تأكيد لا تمثل تهديدًا وجوديًا ملحًا لكيانه بقدر ما تمثله الآن من تهديد وجودي لشخصه.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق