يسري فودة يكتب : رؤوس كثيرة لا تزال في الحظيرة


عندما انتهى في عام 1948 من تصميماتها الحداثية art deco، لم يكن المعماري المصري الأصيل محمود رياض ليعلم أن عمارة البدراوي في شارع شجرة الدر في حي الزمالك ستتحول في إحدى شققها إلى مركز قيادة سري لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، سي آي إيه، في القاهرة.

سُجلت الشقة المستأجرة في هذا المبنى باسم فرانك كيرن، مراسل شبكة CBS الأمريكية في القاهرة، كغطاء حركي بعلم جمال عبد الناصر الذي كان يتلمس خياراته في تلك السنوات التي كان يشق طريقه أثناءها بين من وصفهم ب "الرايحين والجايين"، يعني الإنغليز والأمريكان، بالترتيب.

في قلب هذه العملية كان يقبع مهندس العمليات السرية الأمريكية في الشرق الأوسط، كيرمت روزيفيلت. لم يكن أحد وقتها خارج دائرته الصغيرة في الوكالة يعلم أنه كان يدبر في الوقت نفسه لما علمنا لاحقًا أنه "العملية آياكس" لإسقاط النظام الإيراني.

كان وصول محمد مصدّق إلى السلطة على أكتاف الفقراء من الفلاحين والعمال يعني نهاية عهد الأسرة البهلوية الخاضعة لنفوذ "الرايحين". وكانت قراراته الأولى وطنية لصالح بلاده وشعبه، من استهداف الإقطاع إلى العدالة الاجتماعية والإصلاح الزراعي والتصنيع، إلى آخره. إلى أن وصل إلى تأميم درة الاقتصاد الإيراني، شركة النفط التي كان يسيطر عليها "الرايحين".

لجأ "الرايحين" المنهكين إلى "الجايين" المتشوقين فبدأت العملية آياكس التي كشفت الوثائق المفرج عنها عام 1913 عن تفاصيلها الدقيقة، بما فيها الأموال التي تلقاها كيرمت روزيفيلت للإطاحة بالزعيم الإيراني المنتخب وإعادة الشاه رضا بهلوي من إيطاليا إلى إيران.

قبلها، كان شعب إيران في جله شيعيًا، وبقي كذلك بعدها. قبلها، كان السيد على الثروة الوطنية أجنبيًا، وبقي كذلك بعدها. عدا هاتين الحقيقتين لا وزن كبيرًا لأي شيء آخر إلا من حيث طواعيته للاستخدام كأداة أو على سبيل حصان طروادة في الواقعة التاريخية المعروفة للحفاظ دائمًا على الحقيقة الثانية: الثروة والموارد.

بهذا المعنى، حين تنبش قليلًا سطح المشهد الراهن، سترى إس.رIئ-يل في أبهى تجليات "الدور" الحقيقي الذي خُلقت أصلًا من أجله سواء من وجهة نظر "الرايحين" أو "الجايين" أو "القاعدين ع القهوة".

لكن هذا وحده لا يكفي لشرح لماذا انزلط غثاء بشري كنتنياهو من رحم أمه وهو يصرخ: "واء إيران، واء واء إيران". ما يفسره حقًا هو فهمه المبني على التاريخ الحديث والمعاصر للفارق بين السنة والشيعة، لا من الناحية الثيولوجية، بل من ناحية الخطر على كيانه وعلى المطامع الاستراتيجية للغرب بشكل عام.

لسنوات طويلة، بقي الشيعة في إيران ولبنان وغيرهما شوكة مسلولة في خاصرتهم وعفريتًا في كوابيسهم. سيعترفون لك بذلك، ليس لهويتهم الشيعية في حد ذاتها، ولا لأنهم لا يعترفون بكيانهم وحسب؛ بل لأن تجربة الشيعة في الحياة تتقاطع مع التجربة اليهودية في واحد من أهم العوامل التي تطبع أصابعها الخمسة على النخاع الذهني والنفسي للشخصية.

لا أحد في حاجة إلى أن يكون فقيهًا في تاريخ الإسلام كي يدرك أن أصل ظهور الشيعة لا علاقة له بالدين بقدر ما كان له علاقة برأي مجموعة من المسلمين الأوائل فيمن يستحق أن يكون "الحاكم". هذا موقف سياسي بحت، وبغض النظر عن اتفاقك أو اختلافك معه هو موقف ناشط فاعل مريد مستعد لدفع ثمن الاعتراض. حتى هم أنفسهم لم يكونوا يعلمون أنهم "شيعة" بالمفهوم الذي نعرفه الآن، ولا بالمفهوم الذي اختلقه المستشرقون الذين استخدمهم الطامعون كما استُخدم حصان طروادة. لقد "تشيّعوا" لسيدنا علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، أي "أيدوه"، ومن هنا سماهم الناس "شيعة".

من تلك اللحظة، حين خسروا المعركة السياسية الداخلية، صاروا أقلية تعرضت للاضطهاد أحيانًا واضطرت - كما اضطر اليهود أو اختاروا - أن يعيشوا في حارتهم وأن يطوروا أساليبهم وأظافرهم وأن يحتفظوا بأعينهم طول الوقت مفتوحة على مصادر خطر الحياة بين أغلبية لا تستريح لهم. هذه هي ذهنية الغيتو ghetto التي يشتركون في كثير من ملامحها مع اليهود عبر التاريخ. 

باستثاء الفلسطينيين أنفسهم، لا أحد في المنطقة كلها قادر على فهمهم حقًا كما يفهمهم الشيعة. هذه قيمة لم يخترعها الخوميني حين وصل إلى حكم إيران عام 1979. كل ما في الأمر أنه أتاح لها فرصة التعبير عن نفسها.

لهذا يريد نتنياهو أن يشرب من دمائهم، بينما يمتطيه الغرب لأغراض أخرى. ولهذا يدرك النظام الإيراني أن هذه هي لحظة الحقيقة بين "الرايحين" الأمريكان و "الجايين" الذين لم يجيئوا بعد. 

مسكين ذلك العربي الذي لا يزال يتشفى ويظن أن إيران تُدك الآن لأنها معقل الشيعة، وما أحمقه ذلك الذي لا يفعل شيئًا وهو قادر؛ فما أكثر الثيران البيضاء التي أُكلت حتى الآن، ولا يزال في الحظيرة رؤوس.

تعليقات