سأحكي لكم حكاية:
في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، كان الأستاذ الكبير عبدالله السناوي رئيسًا لقسم الشؤون العربية والدولية في جريدة "العربي" الناصرية، وكان هذا القسم يضم كل من: أحمد مراد… وطلعت إسماعيل… وعماد الدين حسين… ثم ألتحق بنا بعد فترة، وائل قنديل، والدكتورة أماني الطويل، ونور الهدى زكي.
في بدايات "العربي" أقترح الأستاذ عبدالله السناوي عمل "زاوية" أسبوعية ثابته، عنوانها (إقرأ عدوك)، لننشر فيها مقالات مترجمة من الصحف "الاسرائيلية"، انطلاقًا من إنّ قراءة العدو هي مسألة أساسية لفهم ماذا يخطط لنا، وبالتالي في رسم خطواتنا لمواجهته، وهذه "الزاوية" كانت المرة الأولى التي يتم نشرها في الصحافة المصرية، ثم أنتقلت إلى صحف ومجلات أخرى.
في هذا السياق، تم الإتفاق مع "مترجم" عبري، لترجمة أبرز مقالات نشرت في الصحف العبرية خلال أسبوع.
وبعد نشر عدد من المقالات في تلك الزاوية جلسنا في القسم لنتناقش حول تقييم التجربة وتطويرها، واتفقت الاراء على ضرورة التطوير حيث أن الاكتفاء بترجمة مقال أو إثنين من الصحف "الاسرائيلية" لن تكون كافية لتحقيق الغرض من تلك "القراءة"، فاختيار المقالات التي يتم ترجمتها هي خاضعة اولا وأخيرًا لاختيار المترجم، وغالبًا فإن هذه المقالات- حسب أهميتها- كانت تنقلها وكالات الأنباء العالمية فور نشرها في الصحف العبرية، ولذا فضلنا ان نحقق الهدف من هذا العنوان (اقرأ عدوك) من خلال قراءة معمقة للصحف العبرية واختيار موضوع يتم تحقيقه ليس فقط من خلال المقالات، ولكن أيضًا من كل الأشكال الصحافية وحتى الإعلانات التي تنشر في الصحف.
هذا الأمر كان يتطلب ان يكون المترجم صحافيًا و ليس مترجمًا وفقط، لان الصحفي المترجم لديه القدرة على التقاط الفكرة والبحث فيها وتعميقها أكثر من المترجم.
في هذه الأثناء كنت أستطيع "فك الخط" ومعرفة حروفها، نتيجة دراستي لها لمدة عامين في كلية دار العلوم، فتحدثت مع الأستاذ عبدالله السناوي في ذلك وأبديت له رغبتي في تعلم اللغة العبرية بشكل احترافي فشجعني على الإقدام على هذه التجربة.
سألت المترجم الذي نتعامل معه عن مركز لتعلم اللغة العبرية وكيفية الالتحاق به، و قال: بالمصادفة ان فيه مركز خاص سيتم تشغيله خلال أيام لتدريس اللغة العبرية، و ان هذا المركز سيقوم هو أيضًا بالتدريس فيه. بعد أيام قليلة ذهبت مع المترجم لمقابلة مؤسس هذا المركز (هو أول مركز خاص لتعليم اللغة العبرية في مصر)، وكان صاحب المركز أستاذ في الجامعة ويمتلك "فيلا" في المهندسين حول الدور الأول منها إلى قاعات ومكاتب للدراسة.
أتفقنا على كل شيء… المصاريف و عدد الساعات والمواعيد، وأبلغني بانه سيكون معنا 4 بنات و5 شباب وكلهم من أحدث دفعة تعيين في وزارة الخارجية، الذين يطمحون إلى العمل في السفارة المصرية في "تل أبيب"، أو في الإدارة المختصة في وزارة الخارجية، وهذا حقهم، ولا ينبغي ان نلومهم على ذلك، ولكن بالنسبة لي كنت محدد هدفي وهو تعلم اللغة العبرية، ووقتها طبعًا لم يكن فيه ترجمة "جوجل"، أو "ذكاء اصطناعي".
بعد أسابيع قليلة من الكورس، وبينما كنا قد دخلنا في مرحلة القراءة من الصحف العبرية تفاجأت بحضور صحافي "إسرائيلي" للكورس لتعليمنا النطق الصحيح للغة العبري، وهنا ابلغت مدير المركز بامتناعي عن الحضور واستكمال "الكورس"، وعاتبته على حدوث ذلك، مهما كانت المبررات. أبلغت الأستاذ عبدالله السناوي بما حدث فوافقني على هذا القرار تمامًا، و أتفقنا على أحضار مترجم شاب يأتي بالصحف العبرية إلى الجريدة، وتصفحها معا، ونتفق على الموضوعات التي سيقوم بترجمتها. بعدها بفترة بدأت مجلة "روزاليوسف" تنافسنا في هذا المجال، وللحقيقة هي أبدعت في ذلك، لانه كان يتوفر لديها "الصحافي المترجم" الذي يستطيع التقاط الفكرة ويصنع منها "تحقيقًا" صحافيًا بإمتياز.
الذي قام بهذا الدور المتميز في "روزا" هو الزميل "الشاب وقتها" إسلام كمال، شقيق الصديق الزميل الراحل عبدالله كمال، وأتذكر أن "إسلام" عمل تحقيقًا رائعًا عن "البغايا" في المجتمع الاسرائيلي… كانت بعض الصحف "العلمانية" تنشر إعلانات مبوبة في سطرين عن الباغية و رقم هاتفها، فهو التقط هذه الفكرة وحققها بما يدور حولها من جدل في المجتمع (الصهيو.ني)، وتأثير ذلك على الخلافات ما بين "العلمانيين"، و "المتدينين".
لم يكن حضور "صحافي اسرائيلي"، في "الكورس"، هو السبب الوحيد لرفضي الاستمرار في هذا "الكورس"، ولكن يمكن ان هذا الأمر هو "القشة التي قصمت ظهر البعير"، لقد كان هناك أمر أخر أكثر عمقًا من ذلك، وهو "الانبهار"!.
لقد كانت أغلب الصحف العبرية في هذا الوقت من النوع "التابلويد" التي تختلف تمامًا عن صحفنا المصرية والعربية، وهي في إخراجها صحافة "مبهرة" من حيث الشكل، ومثيرة من حيث المحتوى.
لاحظت أن الزملاء في "الكورس" منبهرين جدًا بهذه الصحف ويقارنونها بالصحف المحلية، أو بالصحف "التابلويد" التي شاهدوها خلال دراستهم في أوروبا وامريكا.
في هذا الوقت كنت أسهر يوميًا في شقة الزميل العزيز محمد الصباغ في "لاظوغلي"، وكان يسهر معنا العبقري النابغة الدكتور أحمد محمود، والزميل وائل قنديل، والزميل إيهاب عبدالله إمام، (أبن الكاتب الناصري الراحل عبدالله إمام).
دعني أقول بداية أن الفنان الدكتور أحمد محمود، هو رائد مدرسة الإخراج الصحفى الحديث، وهو من القليلين جدًا الذين جمعوا بين نظريات الصحافة وتطبيقاتها، وبين قيم المهنة ورسالتها، وهو يؤمن أن الصحافة "موقف" و ليس "حياد".
وعندما تحدثت عن هذا "الانبهار"، وخصوصًا عند زملائي في "الكورس"، قال: "هذا طبيعي، لان اخراج التابلويد يعتمد بشكل أكبر على الابهار في الشكل والصورة، والأهم ان القائمين عليها في الصحف العبرية هم من الذين تعلموا و عملوا في الغرب، و بالتالي متقدمون في هذا المجال".
-طيب… يعني أحنا ما نقدرش نعمل مثلهم؟.
المجتمع المصري والعربي غير معتاد على الصحف التابلويد، و يعتبرها غريبة وغير معتادة.
-طيب… ممكن تعلمنا بقى الإخراج.
غدًا سأحضر الأوراق والعدة، ونبدأ.
لقد تعلمت منه كيف أنحاز للمساحات الجمالية في الصفحة، و أن وسائل إبراز الكلمة لا تقل عن قيمتها.
لماذا أحكي لكم هذه الحكاية؟!
حقيقة هي لأمر أعتقد إنه هام وخطير.
أمر يتعلق بكيفية رؤيتنا للحياة والتعامل مع كل ما فيها من مستجدات وتطور رهيب في كافة المجالات، ومنها التالي:
-ان كل فكرة جيدة، تحتاج إلى تقييم دائم.
-إذا أصطدم تطوير هذه الفكرة مع مبادئك، فلا تتنازل أبداً عن المبادئ.
-لا تتنازل أبداً عن التطوير ، فهناك طرق أخرى عديدة لإنجاز ذلك.
-لا تنبهر بما يقدم لك من الخارج "الانبهار" هو أول خطوة على طريق التنازل عن القيم والمبادئ.
-لا يوجد شيء أسمه "الحياد" و"المهنية" وفقط، هناك "الموقف" و"الرسالة".
-ان تكون محصنًا أو "مؤسسًا" تأسيسًا جيدًا يمنعك من الانزلاق في الهاوية.
-ان مصر فيها مئات الآلاف من القامات والعقول التي تستحق ان تنبهر بها، وليس بعقول وقامات الغرب أو الأعداء.
-لو تعارض أي عمل مع قيمك ومبادئك، فبلاش منه، لا يوجد شيء يستحق أن تتنازل ولو بقدر قليل عن قيمك ومبادئك وأخلاقك.
-لو كان فيه أي "شبهة تطبيع" مع العدو، فبلاش منها… مش عايزنها… مش مهمة… ولا ضرورية.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق