إهدار دم عام بقلم: معصوم مرزوق

 

بمناسبة ذكري 23 يوليو 1952

هناك أحداث تاريخية هامة تبدو وكأنها سقطت في ثقب الوعي الأسود، أو قد يمر عليها الناس مر الكرام، رغم أنها كانت في زمانها حدثاً ضخماً يحبس الأنفاس، وعلامة على مدي تطور المجتمع نفسه، وشاهد على عصر مضي، وبوصلة لأزمنة آتية.

كان ذلك في بدايات صيف 1950، وكان الصيف كل عام هو موسم الهجرة السنوية إلي الشمال، فقد كان أغلب وزراء وأعيان مصر يهربون من قيظ الصيف في مصر، ولم تكن هجرة أغلبهم إلي الساحل الشمالي الذي كان يقتصر آنذاك علي مدينة الأسكندرية الجميلة، وإنما كانوا يمضون شهور الصيف في العواصم الأوروبية وخاصة روما وباريس ولندن وفيينا.

ويكتبون في مذكراتهم أنهم يفعلون ذلك " استجابة لنصائح الأطباء لهم كي يتخففوا من أعباء الحكم وضغوطه "، حتي يعودوا مع مطلع الخريف كي يخدموا شعب مصر الذي كان يحتشد في الموانئ ومحطات القطار كي يهتف بأسمائهم مرصعة بكل صفات الإكبار والوطنية، حيث أن أخبارهم في المصيف الأوروبي كانت تتضمن من حين لآخر جهود هؤلاء الكبار من النخب من أجل القضية المصرية، والتي كان ملخصها آنذاك في كلمتين (الجلاء والوحدة)، أي جلاء المستعمر البريطاني، ووحدة مصر والسودان.

ومذكرات الزعماء تحمل الكثير مما سبق، ولكن ما ورد في الوثائق الدولية (وخاصة البريطانية)، حمل أكثر، ومن ذلك مثلاً أن الزعيم سعد زغلول أخذ راحته من المفاوضات بالتوجه إلى مدينة " فيشي " للاستشفاء بناء على نصيحة الأطباء، بينما تروي الوثائق البريطانية عن ترتيباته للإيقاع بمنافسيه وخاصة عدلي يكن. وهكذا.

ولكن في صيف 1950 تابع شعب مصر مبارزة رفيعة المستوي بين مجموعة من أبرز رجالات مصر آنذاك في البرلمان حول استجواب هام، أولهم بالطبع كان مقدم الاستجواب مصطفي مرعي، وعلى الناحية الأخرى كان يتولى الدفاع عن الحكومة وزير الداخلية فؤاد باشا سراج الدين.

ومن حسن الحظ أن مضابط هذه الجلسات لم تتعرض لأي إفساد، بل هي كاملة متكاملة تشهد بأداء رفيع المستوي يتبادل فه المتحدثون الحجج القانونية والسياسية والتاريخية، وكذلك بعض الغمز واللمز، وإن كان ذلك كله دون ألفاظ نابية، أو خروج على قواعد التخاطب الراقي.

تضمن الاستجواب تفصيلات تقرير ديوان المحاسبة حول موضوعين: أولهما: حصول " كريم باشا ثابت" (وكان وقتها المستشار الصحفي لجلالة ملك البلاد) على عمولة بشكل غير قانوني من جمعية المواساة الخيرية، أما الموضوع الآخر والأكثر أهمية فهو موضوع " الأسلحة الفاسدة " التي تم شراؤها وتوريدها للقوات المحاربة في فلسطين، رغم العلم اليقيني بأنها غير صالحة للاستخدام، بل كانت تنفجر في مستخدميها.

 

وفيما يتعلق بقضية " كريم ثابت " مستشار جلالة الملك، فقد قال النائب مصطفي مرعي " أن هذا الشخص يعمل في مؤسسة – إن لم تكن حكومية خالصة، فهي شبه حكومية – ويشغل فيها وظيفة كبري ... وأنه ممن تشرفوا بالالتحاق بخدمة ديوان جلالة الملك.

وأسباب استقالة رئيس ديوان المحاسبة

تبين على أبسط الفروض أن هناك شبهة على هذه اليد التي حظي صاحبها بهذا الشرف، وبالتالي فقد كان حقاً على الحكومة نفسها بحكم الولاء للجالس علي العرش ذاته ألا تسكت، وهنا محل الكلام في مسؤولية الحكومة.

أعترض وزير الداخلية بأن المذكور كان وقت حصوله على عمولة جمعية المواساة يعمل رئيساً لتحرير جريدة المقطم عام 1948، وأن ذلك يخرج عن موضوع الاستجواب ذلك الجزء الذي يتعلق باستقالة رئيس ديوان رئيس المحاسبة.

ثم دارات مناقشات حادة تداخل فيها نواب أخرون بعضهم يناصر الحكومة، وبعضهم يعارضها.

وعندما انتقل النقاش إلي موضوع " حملة فلسطين “، ذكر المستجوب أن مجلس الوزراء قرر عند توجيه الجيش إلي فلسطين، أنه يلزم الترخيص لوزارة الحربية بأن تتحلل من جميع القيود المالية. وهذا ما حدث بالفعل، وبناء على ذلك أصدر وزير الحربية قرارا بتشكيل لجنة أطلق عليها " لجنة احتياجات القوات المسلحة "، خول لها سلطة إبرام الصفقات التي تلزم لسد حاجة الجيش من المؤن والذخيرة.

وكانت هذه اللجنة مطلقة اليد تماماً في إبرام الصفقات إلا من قيد واحد تحوط به مجلس الوزراء وهو أن تكون كل صفقة بمستنداتها.

وكان أحد موردي السلاح اسمه رودي رجيله الذي كان في خدمة بنك من البنوك، وصدر ضده حكم من محكمة الجنايات، وقد أتفق هذا الشخص مع اللجنة المذكورة على توريد خمسين ألف طلقة مضادة للدبابات، وتصل قيمة الصفقة الإجمالية 450 مليون ليرة إيطالية.

تبين لمفتشي الذخيرة والمفرقعات أن ما يصنع جديداً في إيطاليا هو الدانات والبارود الأسود (أي غلاف المقذوف والحشوة المتفجرة)، أما باقي الأجزاء والعبوات (كالطابة والمحول والمادة المحطمة للدانة، والمادة القاذفة والظرف النحاسي) فكلها مستخرجة من مخلفات الجيوش الأمريكية غير الصالحة للاستعمال (أي الزبالة التي خلفها الجيش الأمريكي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية).

ورغم تقرير المفتشين، واصلت وزارة الحربية الاستيراد بواسطة نفس الوسيط، رغم أنه قد ثبت أيضاً وجود مبالغات غير عادية في الأسعار (ثمن الطلقة الجديدة من بريطانيا ، أقل من جنيهين، بينما وصل ثمنها في عقد أبو رجيله إلي أربعة جنيهات ونصف !! )

 

قال النائب مصطفي مرعي:" أي أنه من المأخوذ على هذه القنابل يا حضرات الشيوخ المحترمين أنها تضرب ولا تصيب الذي أمامها، بل تصيب الذي أطلقها "، بينما أقرت اللجنة المشكلة الصفقة رغم عيوبها الواضحة، وكتبت في التقرير:" يصرف الثمن بالكامل حسب شروط العقد المرافق مع شحن باقي العقد "..

لقد كان رئيس ديوان المحاسبة آنذاك يصرخ ألماً، ويرسل تقاريره للحكومة حول هذه المخالفات الصارخة والتي لا تمثل فقط جرائم إهدار مال عام، بل أنها كانت في حقيقة الأمر " إهدار دم عام "!!

وسرد المستجوب سلسلة الوثائق التي اختفت فجأة، ومنها المكاتبات المتبادلة بين وزارة الحربية وأبو رجيلة، ثم انتقل بعد ذلك لإيضاح أن نفس المورد قام بتوريد ذخائر (فاسدة) أيضاً إلي السلاح البحري الملكي، ثبت أنها ليست جديدة أو ليست إيطالية، بل ألمانية من مخلفات الحرب العالمية الثانية، وأنها مختلفة في تصميماتها وغير موحدة، وأنها دهنت بكمية هائلة من الشحم لمنع تمدد الصدأ إلي داخلها، وأن هذه الطريقة غير صحية من جهة، وتسبب ضرراً شديداً للذخيرة والأسلحة التي تستعمل فيها فيما بعد.

وبعد ذلك – أيضاً - وردت إلي مخازن وادي حوف ذخيرة أخري زنتها 70 طنًا من إيطاليا من المتعهد نفسه (أبو رجيلة )، وأظهر فحصها أنها " كهنة " وفقاً لتقرير كبير مفتشي الذخيرة.

وقد قام ديوان المحاسبة بمخاطبة مصطفي نصرت بك وزير الحربية والبحرية في 23 مارس 1950 لإحاطته بهذه المخالفات الجسيمة وغيرها، وجاء في التقرير " المطالبة بوقف صرف أي مبالغ مطلوبة للمتعهد المذكور، وتشكيل لجنة للتحقيق “..

وعندما لم يتلق رئيس ديوان المحاسبة أي رد، استقال من منصبه في 20 إبريل 1950.. (لقد كان هذا الرجل الأمين هو ابن أحد قادة ثورة 1919)..

اختتم النائب مصطفي مرعي استجوابه الذي تواصل على يومين كاملين بقوله:

" إذا أردتم أن يكون ديوان المحاسبة عينكم الساهرة علي ميزانية الدولة دخلاً وصرفاً ، فظاهروه وعضدوه ، واسندوه ولا تتركوا رؤساء هذا الديوان يتساقطون كما تتساقط أوراق الخريف واحدة تلو الأخرى.

وبينما كانت رائحة دخان الفساد تزكم أنوف كل المصريين، استيقظ سكان المحروسة على دخان أشد كثافة ينبعث من حريق ضخم في مخازن الذخيرة في القلعة، كي يلتهم ما تبقي من أدلة الاتهام في إحدى جرائم القرن، وكي تظل دماء جنود مصر التي أهدرها فساد الذمم وخراب السياسيين، لعنة تطارد كل من شارك في تلك الجريمة.


تعليقات