تظل شخصية جمال عبد الناصر حاضرة بقوة في الوجدان العربي، ليس فقط لما جسده من زعامة سياسية ومشروع قومي، بل بوصفه رمزًا لمعارك لم تُحسم بعد بين تيارات متنازعة على التاريخ والمستقبل.
رغم مرور أكثر من نصف قرن على رحيله، لا تزال الكتابات عن عبد الناصر تعكس حالة استقطاب حادٍّ، يتخذ في بعض الأحيان طابعًا شخصيًا وعدائيًا يتجاوز النقد الموضوعي إلى الكراهية المعلنة.
هذه الكراهية لا تستهدف الرجل في ذاته، بل تُوجَّه غالبًا إلى ما يمثله من رمزية سياسية واجتماعية لا تزال فعالة في الحقل الرمزي العربي.
إن استدعاء عبد الناصر في كل مناسبة يكشف عن أزمة مستمرة في الذاكرة السياسية. فالحركات الإسلامية، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، ترى فيه من أجهض مشروعها، بينما تعتبره التيارات الليبرالية عنوانًا للسلطوية وكبت الحريات.
من جهته، اليسار العربي ظل يتأرجح بين رفضه كفاشي في بداياته، وتمجيده كقائد اشتراكي في الستينيات. هكذا تشكلت صورة عبد الناصر كمرآة تعكس تحولات التيارات، أكثر مما تعكس واقعه التاريخي.
تلعب الأحداث الراهنة دورًا كبيرًا في إعادة تشكيل هذه الصورة، في ظل غياب قيادة عربية واضحة، وتصاعد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، يُستدعى عبد الناصر كمثال على الزعامة الحاسمة والمشروع العدلي. ومع شيوع التطبيع، يُعاد تقييم موقفه من فلسطين، إما كرمز للمقاومة، أو كمن أدخل العرب في صراع غير محسوب.
هذا التفاعل بين الحاضر والماضي لا يعيد قراءة عبد الناصر فحسب، بل يُعيد إنتاجه كرمز تستعمله التيارات لتقوية سردياتها أو لنقد الواقع.
ما نعيشه هو صراع سرديات، طبيعي في السياق العربي، لكنه يعكس أزمة أعمق: افتقاد القدرة على بناء ذاكرة جماعية تتسع للتعدد دون أن تنزلق إلى الكراهية أو التقديس.
عبد الناصر، في هذا الإطار، ليس فقط شخصية تاريخية بل حاملٌ لرمزية مركبة تتفاعل باستمرار مع تحولات المنطقة، وكأننا نكتب تاريخه كل مرة من جديد، بأقلام الواقع المعاصر وأهوائه.
وهذا جزء من عظمته ومأساته في آن:
أن يبقى الرجل محل صراع بعد رحيله بقرابة ستة عقود، لأنه ترك من المعنى ما لا يُحتمل تجاوزه، ولا يُنسى أثره
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق