حكاية "العيان والميت" كلنا نعرفها. أحيانا نقولها من قبيل التهكم والسخرية، وأحيانا نرددها للتعبير عن قلة الحيلة. ففي نهاية المطاف: ماذا يمكن أن يفعل العيان مع الميت.. فهذا لا يستطيع، وذاك لا يشعر بأي شيء!!
لكن انظر ماذا فعل داود عبد السيد في فيلم "الكيت كات"، بأحد أهم مشاهد الفيلم من وجهة نظري. هذا المشهد بالنسبة لي يمثل "سردية" كاملة تقوم على وعي المخرج بجملة من عناصر الوجود الإنساني.
إنه مشهد اللقاء الثاني بين الشيخ حسني (الأعمى) وبين عم مجاهد (العجوز الطاعن في السن). في هذا المشهد يأتي الشيخ حسني ليملأ طبقه بالفول كالعادة، بينما عم مجاهد مات وهو جالس في مكانه.. إنه نفس مشهد "العيان والميت". كل ما هنالك أن المخرج داود عبد السيد استبدل "العيان بالأعمى" وأبقى على الميت.
الأعمى- الشيخ حسني- العدمي للغاية يكشف بمرارة عن الأسباب التي دفعته لبيع البيت وعن قلة حيلته، والميت- عم مجاهد- لا يسمع ولا يشعر. ولكنها لحظة مكاشفة إنسانية في غاية الحزن والشفافية والشجن. لحظة تأتي متأخرة وكأنها إحدى "مشيئات القدر" في التراجيديات الإغريقية. فلا هذا يستطيع فعل شيء، ولا ذاك يشعر بأي شيء. إنها لحظة شبيهة بما يحدث بين "العيان والميت".
فكيف استطاع المخرج داود عبد السيد أن يحول هذه اللحظة القدرية المقيتة، بقدرة فنية ووعي خارق، إلى لحظة فعل وقدرة تتجلى فيها تلك الروح الإنسانية الصلبة.
الأعمى يأخذ طرف جلبابه بين أسنانه، وينزل قدر الفول من عليها، ويسحبها بالقرب من جثة الميت الذي لا يزال جالسًا في مكانه. وينقل الجسد ليسجيه عليها، ثم يجر العربة بهمة ومسؤولية كاملتين عبر الحارة الطويلة الضيقة، وكأن طول الحارة وضيقها (في الكادر الملهم) يعكسان مدى صعوبة الأمر على أعمى يجر ميتًا، ما يمكن أن يصادف هذا الأعمى في ذلك الطريق "الوعر".
مشهد نادر يقلب اللحظة إلى عكسها، ويحوِّل الحالة إلى حالة الضد تمامًا. يدمر أسطورة "العيان والميت"، التي عادة ما نستخدمها للتعبير عن قلة الحيلة والإحباط والضعف، ويحيلها إلى لحظة فعل، ولحظة إنسانية نادرة، ولوحة فنية تطرح تساؤلات وجودية صعبة.
إن فيلم "الكيت كات" للمخرج داود عبد السيد، هو في الحقيقة، فيلم حزين للغاية وملئ بالنكد، أو إذا أردنا أن نخفف من وطأة المعنى وثقل العبارة فمن الممكن أن نقول إنه فيلم ملئ بالشجن. وإذا شئنا الدقة أيضا، فإن رواية "مالك الحزين" للكاتب إبراهيم أصلان، والتي تم بناء الفيلم على أساس موتيفات منها، كانت أخف بكثير من هذا الفيلم "الكئيب" من حيث جرعة الحزن والبؤس والإحساس بالخواء. إننا في واقع الأمر في هذين العملين (الأدبي والسينمائي) أمام بكائيتين تشتركان في بعض العناصر، وتفترقان في بعضها الآخر، وفقا لنوع كل منهما وقوانينه ومعاييره وقواعده. ولكنها بكائيتان عن الهموم الإنسانية البسيطة، والمشاعر والاحتياجات الإنسانية الأساسية، وعن قلة الحيلة، وخفوت الأمل وصعوده وتألقه، وعن الإحساس بعدم الجدوى حتى وإن "قاد الأعمى" طائرة أو سفينة فضاء.
بعد قراءة الرواية تقفز إلى الذهن تساؤلات كثيرة حياتية ووجودية، وتسيطر حالة من الهدوء والتأمل. لكن بعد الفرجة على الفيلم، تصيب المشاهد خيبة أمل وإحباط، وحالة من الخواء. وينتابه شعور بفراغ ما في الصدر، فراغ خانق مثير للضيق والغضب، ومثير أيضا لإحساس شديد الوطأة بقلة الحيلة. ولا يستطيع الإنسان في هذه الحالة أن يفعل أي شيء إزاء تيار الحياة الهادر بكل التناقضات والتفاصيل إلا أن يتعلق بخيوط أمل ما بعيدة للغاية ورقيقة للغاية وهشة للغاية ويفرد كفيه إلى الأمام ويردد في ذهول: "هذه هي الحياة".
يبدو أن إبراهيم أصلان كان يكتب عن أشياء وتفاصيل وبشر في سياق له علاقة بالهدوء والتأمل والبحث عن معنى، أو عن شيء ما، ربما يكون موجودا حولنا. كان يبحث عن شرارات من النار في داخل هؤلاء البشر ليحولها إلى طاقة نور، يأخذ بيدهم من دون أن يدركوا، ويربت على أرواحهم من دون أن يشعروا بأي ضعف أو دونية أو خجل. أما داود عبد السيد فقد أراد لهؤلاء البشر أن يمارسوا الصخب إلى أقصى حد ممكن، أن يجربوا ولو مرة واحدة في حياتهم تحويل ما يتصارع بدواخلهم، وتحويل ضعفهم وقلة حيلتهم وعبثهم ومثالبهم وخيباتهم، إلى حركة وزعيق وعراك وضحك وسخرية ومسخرة. يبدو أن داود عبد السيد كان يريد أن يقول لهم: "أنتم بشر. والبشر يفعلون ما يُخجل أيضا. وهذا أمر طبيعي لا يستحق الخجل. لكن البشر أيضا لا يستسلمون، ولا ينفضون أياديهم بسرعة، ولا يجلسون هكذا مثل الدواب".
كان أسلوب إبراهيم أصلان وتقاليده في الكتابة، رغم قلة الإنتاج، يتميز بجملة من العناصر المهمة التي من النادر أن تتكرر لدى أحد من الكتاب الآخرين، وعلى رأس هذه العناصر أو التقاليد، التعامل الصارم من المفردات، والاختيار الدقيق للكلمات والصور والتعبيرات. أي التعبير بأقل قدر من الكلام، وصياغة الصورة المطلوبة "المتقشفة" ولكن المعبرة بأقل قدر من المفردات. وإذا أضفنا العالم المتنوع، وسحر العلاقات بين الشخصيات، سنجد أمامنا تقاليد مميزة لسرد إبراهيم أصلان. وبالتالي، يتولد انطباع ما بأن سرد إبراهيم أصلان هو الذي خفف من وطأة الحزن والكآبة والأسى والبؤس في عالم هذه الرواية، وهدَّأ قليلا أو خفف قليلا من ثقلها.
أما داود عبد السيد، فقد فعل ما لا يمكن أن يفعله إلا مخرج شاطر (أو مخرج "صايع" بالمعنى الدارج والإيجابي)، حيث استعان بجملة من مفردات الحياة الشعبية المصرية، ومن بينها الجنس والمخدرات والنكات والسخرية والضحك والمقالب، والتناقضات الحادة والصارخة ليحول حزن وكآبة المشهد العام إلى حالة من الشجن حتى وإن كان في سياق بكائية صاخبة. ما فعله داود عبد السيد لا يمكن أن يفعله أحد آخر غريب على عناصر الحياة المصرية التي تكمن عادة في الوجدان وفي اللاوعي وفي الحواري الشعبية وفي بيوت المهمشين وبيوت عباداتهم وغرزهم وتحت "سرايرهم ومخداتهم"، وتخرج في أوقات لا يمكن أن يتوقعها أحد. تخرج وكأنها من طبائع الأمور.
يأخذنا الأدب إلى بحار ومحيطات وأقمار ومجرات، ويأخذنا الفن إلى سحابات وأحلام وتحليق في آفاق لا أول لها ولا آخر. ومع ذلك، فالحياة هي الحياة، والواقع هو الواقع. وفي نهاية المطاف نعود إلى الحياة وإلى الواقع، ولكن ليس كما ذهبنا. هكذا هي لعبة الأدب ولعبة الفن. وهكذا هو مكر الكاتب والفنان وقدرتهما وطاقة النور بداخلهما.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق