كان من الممكن أن تكون لدينا أغنيات أكثر صدقا، أكثر حرية، أغنيات تربي الوعي لا تخدره، لولا أن السوق قال كلمته. لكن هل يلام السوق وحده؟ أم يلام الفنانون الذين اختاروا أن يكونوا تجارا لا صناع رؤى؟
عندما التقيت زياد الرحباني في بيروت، لم يكن اللقاء عابرا. وجدت بين أوراقه بعضا من مقاطع قصائدي، وصلت إليه عبر صديق مشترك. فوجئت، وامتلأت امتنانا، لا فقط لأنه اطلع، بل لأنه اهتم. في تلك اللحظة أدركت أن هناك من يسمع جيدا، من يقرأ القصيدة كما تكتب، لا كما تباع.
زياد لم يكن مجرد ملحن بارع أو كاتب ساخر. كان مشروعا فنيًا متكاملا، لا يشبه غيره، ولا يريد أن يشبهه أحد. لم يساوم على رؤيته، ولم يقدم أغنية إلا لأنه يريد قول شيء، منذ أنطلاقته وهو يحفر نفقا خاصا له في وجدان المستمع العربي، نفقا يتسع للفكرة، للسخرية، للحزن، وللثورة.
في المقابل، كنت مثل كثيرين أبحث في مصر عن مطرب يغامر، عن منتج لا يصاب بالهلع من الخسارة، عن مشروع فني يؤمن بأن الأغنية ليست إعلانا، ولا استهلاكا سريعا، بل صوت داخلي يجب أن يقال. كتبت عشرات الأغنيات، بعضها كان يمكن أن يغنى ويعيش، لكنها
لم تجد "زيادا مصريا" يراها أو يحتضنها.
المفارقة أن لبنان، رغم قسوته الاقتصادية وصغر مساحته، أنجب تنوعا غنائيا مذهلا، من الرحابنة إلى مارسيل خليفة، من فيروز إلى أميمة الخليل، من زياد إلى مشروع ليلى. في حين أن مصر، بكل ثقلها الفني والتاريخي، دخلت منذ منتصف الثمانينات في مرحلة من التكرار والتراجع، مع استثناءات قليلة، خجولة، لا تشكل تيارا.
النجوم هنا لا يملكون مشروعا، ولا شغفا بالمغايرة. الأغنية أصبحت "دكانة للرزق"، بلا رؤية، بلا رغبة في التغيير. وعندما تظهر أغنية صادقة، مختلفة، تخنقها الرقابة، أو يتراجع عنها المنتج، أو يعتذر عنها المطرب.
الغناء ليس مجرد صوت جميل، هو موقف. هو قول ما لا يقال في نشرات الأخبار. وزياد كان يملك تلك الشجاعة، التي لا يمكن فصلها عن إدراكه لدوره في مجتمعه.
لهذا أقول:
في مصر، نحتاج إلى زياد.
نحتاج إلى من لا يخاف، من لا يهادن، من لا يفرق بين السياسة والغناء، بين الحزن والسخرية، بين القصيدة واللحن.
ولحين يظهر هذا "الزياد"،
سأظل أكتب الأغنية التي لا تجد من يغنيها،
وأسلمها للريح، أو لمستمع غريب، يلتقطها يوما، في زمن آخر، في بلد أكثر عدلا مع الفن
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق