علي أبو هميلة يكتب : صلاح عبد الصبور وأنس حبيب


لا أملك أن أتكلم 

فلتتكم عني  الريح 

لا توقفها إلا جدران الكون 

لا أملك أن أتكلم 

فليتكلم عني موج البحر 

لا يمسكه إلا الموت على حبات الرمل 

لا أملك أن أتكلم 

فليتكلم عني قمم الأشجار 

لا يجني هاماتها إلا ميلاد ثمار 

لا أملك أن أتكلم 

فليتكلم عني صمتي المفعم 

هذه هي اليومية الثالثة من قصيدة الشاعر المصري الكبير صلاح عبد الصبور بعنوان (يوميات نبي مهزوم يحمل قلما ينتظر نبيا يحمل سيفا) التي تضمنها نصه الفريد لمسرحية (ليلي والمجنون) الذي نشر في عام 1972، وقدمت عرضا مسرحيا على مسرح الجيب لعب أدوار البطولة فيه محمود يس، سهير البابلي، وصلاح السعدني، وهو أحد النصوص التي راجت كثيرا في مسارح الأقاليم والجامعة في عقد الثمانينات في مصر، والنص الشعري في هذه القصيدة هو تعبير عام عن حالة يمر بها الوطن ما بين أنكسار الهزيمة في يونيو/ حزيران 1967، وما بعدها من الالأستعداد لمعركة تحرير الأرض والوطن، وفي عام قيل أنه عام الحسم صدرت مسرحية عبد الصبور، وربما بدأ كتابتها في عام السابق للنشر والذي قال عنه الرئيس المصري أنه عام الضباب بمعنى الضباب السياسي العالمي. 

في اليومية الثالثة ينتقل صلاح عبد الصبور من توصيف الحال في يوميته الأولى والثانية الذي يبشر به بالفارس الذي يعطي للكلمات معانيها ويحول الكلمة إلى فعل حقيقي، فارس يحمل السيف ليحقق بها أحلام الكلمات، يجعل لكلمات من العدل، الحرية، المساواة، الحق العدالة معني واقعي، فتلك الكلمات إذا افتقدت القوة تصبح بلا معني تصبح لا شيء

يأتي من بعدي  من يضع السيف برأسي 

يأتي من بعد من يتمنطق بالكلمة 

ويغني بالسيف 

هذه سمات الفارس المنتظر الذي لا يعبأ بالإنهزاميين المنتشرين في دكاكين الثقافة والإعلام، وفي الحانات والملاهي الليلية، الذي يمضون أيامهم في التماهي مع الخزي والعار، لا يشعرون بالآلام، والحزن، ولا بالقتلي من النساء والأطفال والشيوخ/ من يموتون بصواريخ العدو وقنابله، ولا جوعا بحصار العقلاء والأشقاء، وفي يوميته الثانية يصف لنا عبد الصبور هؤلاء الذين يملأون الأجواء بالكلمات الضخمة والأفعال الصغيرة، يعري ببراعة كل المتشدقين بالكلمات من علماء، خطباء، إعلاميين، حتى الشخص العادي الذي يغمض عينيه عن المأساة مصطنعا عدم الرؤية، يحددهم الشاعر الذي يحتل مكانة كبيرة بين كتاب الشعر الحديث ويصفهم لنا، كهان الكلمات الكتبة، جهال الأروقة الكذبه، وفلاسفة الطلمسات، جرذان الأحياء ( التعبير عن العامة المتغافلين) وتماسيح الأموات هؤلاء 

ينتزعون ثياب الأفكار المومس والأفكار الحرة 

وتلوك الأشداق القذرة 

لحم الكلمات المطعون

أما اليومية الثالثة في مقدمة المقال فهي وصف لمعنى القوة والجسارة التي تتمثل في الريح، والموج، والأشجار العالية التي تنطلق فلا تحدها المعاني والأفكار الضئيلة. 

أقتراح التهجير الإنساني الرحيم! 

يقول أحدهم في عصرنا الحالي أن على سكان غزة أن يقبلوا بالتهجير الآن حتى لا يقتلوا جميعا، فهو رقيق القلب والاحساس لا يحتمل قلبه هذا الموت جوعا في غزة، فتمنطق عقله حسب تعبير عبد الصبور ليقترح تهجير مليوني فلسطيني من أراضيهم ويغلف ذلك بغلاف الرحمة، أنظر كيف يحاول أن يقنعنا بالانبطاح والتسليم أنها الرحمة المذلة، الرحمة التي تحقق للعدو أهدافه التي تنتصر للعصابة الصهيونية ورئيس وزراءها تنقذه من مصيره المحتوم بالمحاكمة والخروج الذليل من غزة ومن التاريخ الذي لم يذكره سوى بالسفاح القاتل. 

هذا النموذج من أصحاب الأفكار الرحيمة لأصحاب الانسحاق أمام العدو والمذلة أمام القوة المتغطرسة هم أصحاب نظرية أن حماس هي السبب فيما يحدث لأبناء غزة وفلسطين، وكأن تاريخا طويلا من القتل والذبح والحصار الصهيوني في كل فلسطين طوال تاريخ الاحتلال كان بسبب حماس، وكأن خصار الضفة الغربية الآن والمقتلة فيها بسبب حماس، كأن دير ياسين، وصبرا وشاتيلا، وتل الزعتر، والمقاتل في جنوب لبنان، وفي العراق، وسوريا وحصارهما سنوات بسبب حماس، وكأن يد الصهاينة التي قتلت الأسرى المصريين العزل في صحراء سيناء بسبب حماس. 

أن هؤلاء الذين يصدعون رؤسنا كل ساعة بدعاوي الانهزام والاستسلام هم دعاة السلام والخضوع للصهاينة والأمريكان الذين كانوا يدعون الحكمة في عصر صلاح عبد الصبور فجعله يتنبأ لهم 

يا أهل مدنينتنا 

هذي قولي 

انفجروا أو  موتوا 

ولعل أحدهم انفجر في عبد الصبور وليس ضد الظلم والطغيان والإبادات والفساد والأستبداد قائلا له "لا نحن نعيش وهذا يكفينا لا نريد أن نموت مثل أبناء غزة وأطفالها جوعا، نحن نمارس الحياة نقيم مهرجانا للمسرح، وحفلا في مارينا، وأخر في الساحل الشرير" وقال أخر إني على موعد للذهاب للسينما، أو موعدا مع أصدقائي في المقهى، ما لنا نحن بغزة وأطفالها ما دمنا نعيش" ولكن عبد الصبور يحاول أن يمدهم بالبصيرة التي يراها ولا يروها 

رعبا أكثر من هذا سوف يجيء 

لن ينجيكم أن تختبؤوا في حجراتكم 

أو تحت وسائدكم أو في بلوعات الحمامات 

لن ينجيكم منه أن تلتصقوا بالجدران

 إلى أن يصبح كل منكم ظلا مشبوحا عانق ظلا

لن تنجو قالها عبدالصبور منذ نصف قرن وقالها أنس حبيب على بوابة السفارة المصرية بهولندا ظهر يوم كان نتاجه أكثر من 100 شهيدا بالرصاص او بالمجاعة في غزة، استطاع الفتى المصرية أن يضع مسؤولا، ومواطنين أمام أحساس الحصار والقهر، حول أنس حبيب الكلمة إلى فعل، لقد قال كلمته جربوا الحصار، جربوا إلا تجدوا ماءا، غذاءا، دواءا، جربوا تعطيل مصالحكم لمدة ساعة، إدركوا شعوركم بالحصار، عجزكم عن الخروج والدخول فقط لمدة ساعة وليس عامين كما قال الشاب أمام العالم بالأمس. 

العلاقة بين قصيدة عبد الصبور عن النبي الذي هزمته الكلمات الرنانة أمام مجتمع لا يؤمن إلا بالقوة والسيف بمعانيه، والمقاومة بكل أشكالها، وصاحب نظرية قبول أهل غزة للتهجير رحمة بهم، وفعل أنس حبيب أمام السفارة المصرية هي العلاقة بين العجز والفعل بين أصحاب الكلمات 

لا يعرف أحدهم من أمر الكلمات 

إلا غمغمة او هسهسة أو تأتأة أو فأفاة 

أو شفشقة أو سفسفة أو ما شابه ذلك من أصوات. 

أنس حبيب والفعل الحقيقي 

وبين الفارس الذي يعطي الكلمات معانيها ويحول كلماته إلى فعل مؤثر لا يقف عند الكلمات الممطوطة المغلفة بقناع زائف من الإنسانية والرحمة فيتحول أمثال أبطال المقاومة في أرض المعركة إلى هذا الفارس الذي كان لابد من حضوره، ويتحول أنس حبيب إلى فارس أخر خارج أرض المعركة لكنه يمد إليهم يد العون لا بالكلمات التي تدعو للانبطاح ولكن بالفعل الذي يضع الجرس في رقبة القط فتتحقق سمات فارس صلاح عبد الصبور الذي نتنظره 

- ياسيدنا الصبر تبدد 

والليل تبدد 

- أنا لا أهبط إلا في منتصف الليل 

في منتصف الوحشة 

في منتصف اليأس

في منتصف الموت 

- ياسيدنا أما أن تدركنا قبل الرعب القادم 

أو لن تدركنا بعد. 

تعليقات