علي أبو هميلة يكتب : ميلاد مخرجة جديدة للواقعية السينمائية في مصر


بعد معاناة كبيرة تصل إخيرا وردة إلى حلمها بامتلاك بالفستان الأبيض التي طالما حلمت به طفلة صغيرة بأستعارة فستان من السيدة التي تعمل في مجال تأجير الملابس لشركات الإنتاج السينمائي الحاجة عليه، تهدي الحاجة عليه فستان إحدى الممثلات المشهورة لوردة بنت الحي الشعبي لترتديه في حفل زفافها.

حلم مشروع ولكن! 

تخرج العروس تتراقص من الفرحة بحصولها أخيرا على فستان زفاف أبيض، وفي شوارع وسط المدينة يخرج مجموعة من الشباب اللاهين ليتحرشوا بها وصديقاتها اللأئي ساعدن وردة في تحقيق حلمها، وتتحطم أحلامها وصديقاتها بالتحرش الشبابي، واحتراق الفستان الأبيض ودهسهم بالأيادي والأقدام في وسط البلد. 

تبدا معاناة وردة بعد كسرها وصديقاتها في البحث عن وسيلة الحصول على الفستان التي ترى وردة خريجة كلية الإعلام 2011 أنها حقها، فقد تنازلت عن حلم أن تكون صحفية ولم تجد مكان يوظفها، تنازلت عن أشياء كثيرة في حياتها ولا تستطيع أن تتنازل عن حلمها البسيط (اللي من حقها) في الزفاف مع الرجل التي انتظرت سبع سنوات من أجل الزواج به، تأتي وردة من مشوار طويل للحصول على أبسط حقوقها كبنت وتسير في مشوار أشد قسوة وصعوبة. 

مجرد حلم بسيط يراود كل طفلة صغيرة منذ ميلادها وحتى الممات حلم أن تمتلك فستان تزف به وتعيش باقي العمر على ذكرياته، ولكن يصبح الحلم البسيط مستحيلا في الأحياء الشعبية، وبين أبناء الطبقة التي كانت وسطى ومستورة فلم يعد المهم ألاهتمام بالشكليات كالفرح المبهر، والفستان الأبيض، وحتى البيت الآمن مطروحا، وعلى الجميع أن يكافح مريرا من أجل الحصول على أبسط حقوقه، هذا موضوع الفيلم الأول للمخرجة السينمائية والمؤلفة جيلان عوف، والفيلم هو إشارة بميلاد مؤلفة ومخرجة تعطي أملا في سينما معبرة عن الواقع المصري وما صار إليه الحال. 

 امتداد مخرجي الواقعية

جيلان عوف صاحبة تجربة وحيدة في فيلم روائي قصير (مهرجاني) مدته 8 دقائق انتجته بنفسها 2017 وتحلم أن تكون صحفية تعطينا بشارة أن تكون أول مخرجة مصرية تنتمي لمدرسة الواقعية المصرية القديمة التي أرسى قواعدها صلاح أبو سيف، ولحقه عاطف الطيب من مخرجي الواقعية الجديدة مع  محمد خان، ورضوان الكاشف، وخيري بشارة، وعوف في أول أفلامها تذكرني بميلاد عاطف الطيب وجيل الثمانينات في السينما المصرية،  تشعر أن روح عاطف الطيب في فيلمه ليلة ساخنة حاضرة، وكذلك روح رضوان الكاشف في فيلمه ليه يا بنفسج، وملامح من سينما دوواد عبد السيد في فيلميه الكيت كات وأرض الأحلام. 

تصحبنا مريم عوف في الفستان الأبيض إلى شوارع القاهرة من أحياءها الراقية إلى حواريها الضيقة في رحلة يوم وقفة العيد، وصباحه 36 ساعة هي كل ما تمتلكه الفتاة وردة لتحقيق حلمها، رحلة خاطفة مدتها ساعتين تستعرض فيها المخرجة أنماطا متعددة من البشر، والحيوات المختلفة تبدأ من الأحياء الراقية تستعير فستان زفاف إحدى فتيات الحي عن طريق خالتها التي تعمل لدى الأسرة الغنية.

في مشهد مرير تقف وردة خريجة الإعلام على البوابة يستقبلها رجل الأمن عندما يعرف أنها خريجة كلية الإعلام يعرفها أنه ايضا خريج نفس الكلية عام 2012، مشهد عابر ولكنه مرير فهي لا تعمل في تخصصها بل تعمل كمساعد شيف في أحد المطاعم، وهو يعمل أمن في كامبدوند سياحي ينتاسب مع قسم العلاقات العامة والإعلان بذات الكلية، فستان فتاة الحي الراقي اشتعلت في شمعة في الفرح فاحترق.

من أجل الحلم 

تخرج وردة بعد أن فقدت الفستان لتذهب إلى سيدة تعمل في فساتين الزفاف وتتعامل مع الأسرة الراقية ولكنها تقوم بتأجير بعض الفساتين القديمة، لنكتشف أنها تقوم بتصنيع الفساتين داخل ورشة خفية وتبيعها للزبائن كونها مستوردة وبأرقام فلكية، وتفشل المحاولة الثانية.

تستمر المحاولات لتذهب إلى محل تجميل ومنه تأجير فساتين ولكن العيد موسم ولا يوجد أي فستان للتأجير، ومنه إلى عروس في الشارع ومشهد لزفة شعبية تستعرض فيها المخرجة سلوكيات قطع الطريق وشباب الأحياء الشعبية، ثم تذهب إلى الحاجة عليه التي تقوم بتأجير الفساتين للممثلاث، وتخرج من عندها مجبورة ولكن شباب وسط المدينة يغتالون حلمها. 

فيلم الفستان الأبيض إنتاج 2024 وهو إنتاج شبه مشترك بين المخرجة وبطلة الفيلم ياسمين رئيس التي أدت دور وردة في الفيلم، وبعض شركات الإنتاج، وقد عرض في مهرجان الجونة 2024 وحقق نجاحا نقديا مبشرا بميلاد مخرجة ومؤلفة  تستطيع أن تكون متميزة بين مخرجي السينما المصرية.

لوحة القاهرة المعاصرة

برشاقة شديدة تنتقل كاميرا مريم عوف وبمساعدة موسيقى خالد حماد لتقديم لوحة تشكيلية للقاهرة (مصر) مش إيجيبت اللي (هنا) مش هناك في سينما اليوم الواحد والإيقاع السريع للبحث عن حلم بسيط قد يكون مشابه لحلم السيدة التي أوقفت المحافظ الأسبوع الماضي لأنها تحلم فقط بقطعة لحم تأكلها، نفس الحلم البسيط التي خرجت من أجله حورية، وسيد بطلي عاطف الطيب في فيلمه (ليلة ساخنة) ليلة رأس السنة، أما هنا فهي ليلة العيد ويوم زفاف وردة وعصام بطلي الفستان الأبيض. 

تعود الفتاة من وسط المدينة محبطة ولكنها تصمم على تحقيق هذا الحلم فلن تتنازل عن اخر أحلامها وابسطها أن تزف بعد سبع سنوات كفاح مرير من أجل الزواج بفستان أبيض، تقف أمام محل فساتين لتقرر سرقة الفستان وأمام المحل تصرخ في وجه زوجها أن هذا حقها البسيط ولن تتنازل عنه، وتكون النهاية في قسم الشرطة.

في مشهد رائع للممثلة الكبيرة ميمي جمال الموجودة لأنها اشترت أحتياجات أبنتها في الزواج بإيصالات ولم تستطع دفعها، حوار أخر مرير يذكرنا بحوار أمينة رزق مع فاتن حمامة في فيلم إريد حلا، وحوار عبد المنعم مدبولي مع أشرف عبد الباقي في فيلم أريد خلعا، وأدته ببراعة ميمي جمال مع تعبيرات ياسمين رئيس التي تتحرك بثقة لتكسب مكانة بين نجمات السينما في دور وردة، وفي المشهد تكتشف وردة أن هناك هموم أكبر من الفستان الأبيض لتتبرع بجزء من هدية زواجها للسيدة الغارمة، تخرج مع زوجها من القسم وقد قررا الانفصال. 

أيادي صناعة البهجة 

في الليل وبنفس منطق أم العروس في القسم تقوم والدة وردة بمحاولة إسعاد أبنتها وعمل فستان أبيض حتى يأتي العيد والفرحة تسكن قلب أبنتها، ولا تجد قماش أبيض إلا لافتات التهنئة لعضو مجلس الشعب وتتعاون كل سيدات الحي في عمل الفستان الأبيض لتشرق شمس العيد وقد شارك كل الفقراء في صنع البهجة لفتاة الحي تاركين همهم وحزنهم كما ترك الجميع مشاكلهم وذهبوا لصلاة العيد لتطل الفرحة على الحي الفقير ولو كانت فرحة مؤقتة لن تستمر طويلا لأن مشاكل الحياة الزوجية قد تكون أكبر من مجرد حلم فستان أبيض. 

فيلم الفستان الأبيض يعيد بعضا من الروح الجميلة إلى السينما المصرية، ويقدم مخرجة تدرك أدواتها الفنية والكتابة السينمائية، وإيقاعها، فهذا الاستعراض الكبير لمشاهد القاهرة وحيواتها المتنوعة، وصراع الحياة قدمته جيلان عوف ببراعة وصاحبها موسيقى يرتبط بالشارع وتعرف موسيقاه معنى الشجن، ويتألق في الفيلم مجموعة ممثلين على رأسهم سلوى محمد علي، لبنى ونس، أروى جودة، ومعهم أحمد خالد صالح، وأسماء جلال، أما مشهد ميمي جمال في القسم فهو قمة التميز في الفيلم، وحملت ياسمين رئيس البطلة قصة جلان عوف إلى بر الأمان، أنه فيلم يستحق المشاهدة، ومخرجة واعدة قد تكون أملا في سينما جيدة. 

المصدر : الجزيرة مباشر نت 



تعليقات