معصوم مرزوق يكتب : متي تضرب مصر إسرائيل ؟


تناولت في مقالات كثيرة ، بعض أمثلة للمخاطر التي قد تهدد الأمن القومي المصري ، بما في ذلك  إحتمالات قيام مصر بعمل عسكري شامل ضد الكيان الصهيوني .

وقد توصلت بشكل عام  إلي استنتاج إستحالة تبرير ذلك من زاوية القانون الدولي إلا بشروط معينة ، وفي هذا المقال سأحاول البحث في سيناريو أقل من حرب شاملة، وأكثر من مجرد إشتباكات محدودة، وأعني بذلك البحث في إمكانية قيام مصر بتوجيه ضربات إجهاضية محدودة ضد بعض القوات الصهيونية التي تحتشد الآن علي حدودنا في المنطقة د (بالمخالفة لإتفاقية السلام بين البلدين ).

ولا شك أن هذا قرار خطير، ولا يمكن الإقدام عليه إلا بعد تفكير وتدبير، مع إنذار العدو بحقيقة وتفاصيل إنتهاكاته، ومطالبته بسحب قواته، مع تمهيد دبلوماسي واسع، بما في ذلك مخاطبة مجلس الأمن لإتهاذ قرار يلزم العدو بإحترام تعهداته. 

فإذا تبين تعسف العدو ، أو الكشف عن نواياه العدوانية التوسعية ، أو ثبات محاولته دفع سكان غزة لإقتحام الحدود المصرية ، فأن ذلك يمكن أن يعد في حد ذاته ذريعة كافية للدفاع عن النفس أو cause belli. 

وسوف أحاول فيما يلي كشف بعض الجوانب القانونية الهامة للموضوع ، خاصة بعد تصاعد أصوات عديدة تطالب الحكومة بعمل عسكري مصري ضد الكيان الصهيوني .

أولا : التدخل العسكري المصري لحماية السكان في غزة من عمليات الإبادة التي يستنكرها العالم كله ، وهذا التدخل يجد أساسا قانونيا في قواعد القانون الدولي الإنساني ، فقد برز  مؤخرا إلي الوجود مولود دولي جديد هو "مبدأ المسئولية في الحماية " Responsibility to Protect " التي اختصرت في R2P ، وهو يؤكد  أن سيادة الدولة تتحقق مع التزام الدولة بحماية شعبها ، وإذا كانت الدولة غير راغبة أو غير قادرة على القيام بذلك، فإن المسؤولية تنتقل إلى المجتمع الدولي، الذي يستخدم وسائل دبلوماسية وإنسانية لحمايتهم، و إذا لم تكن الوسائل السلمية كافية، فأن مجلس الأمن يمكن أن يفوض استخدام القوة وفقا للفصل السابع من الميثاق كحل أخير.

وحيث أن الشعب الفلسطيني يعتبر بمثابة " شعب " يخضع لسلطة الإحتلال ، التي أثبتت أنها غير راغبة أو غير قادرة علي توفير الحماية اللازمة له ، فأن التطبيق الواسع لمفهوم " المسئولية في الحماية " يثبت في هذه الحالة رغم اختلاف الوصف الاصلي mutatis mutandis .

إلا أن تطبيق هذه القاعدة يتطلب تفعيلا عن طريق مجلس الأمن ، وهو ما لا يتصور تحققه في ظل وجود الفيتو الأمريكي ، ولكن ذلك قد يثير تفكيرا خلاقا يستند إلي أن المنظمات الإقليمية تتولي عبء صيانة الأمن والسلم الدولي في إطار مناطق نفوذها ، بما يعني أنه يمكن بتفسير واسع أن تصدر جامعة الدول العربية قرارا بتكليف بعض الدول العربية بالتدخل لحماية الشعب الفلسطيني وفقا لمبدأ " المسؤلية في الحماية " ، أو مطالبة محكمة العدل الدولية بإقرار هذا الحق .

ثانياً : الضربات الإجهاضية Pre-emptive Strikes ،تعني باختصار " عدم إنتظار العدو ، وإنما الذهاب إليه " ، ويذهب بعض الفقهاء إلي أن القانون الدولي قد اعترف منذ زمن بعيد بحق الدفاع أمام " الخطر المحتمل " (Imminent danger ) ، ويمكن علي ضوء ذلك أن تري مصر أن مفهوم " الخطر المحتمل " يجب تكييفه طبقاً لإمكانيات وأغراض الكيان الصهيوني ، ليس فقط بناء علي سلوكه العدواني ، وإنما ما تكشف عنه تصريحات بعض كبار مسئوليه عن نوايا عدوانية ، مثل " إعادة إحتلال سيناء " ... 

وذلك قد يعني بإختصار تقديم تعريف جديد لما توافق عليه أغلب فقهاء القانون الدولي الذين كانوا يعرفون " الخطر المحتمل " بأنه "ذلك الخطر الذي يبدو من تحرك عسكري واضح من الخصم أي دبابات وأساطيل وتعبئة .. إلخ ، بهدف الإعتداء علي أراضي إحدي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة " .

وتجدر الإشارة إلي أن أمريكا قد استخدمت هذا النوع من الضربات ضد بعض الأهداف في اليمن ، و في العراق ، كما استخدمته أيضاً في سوريا ضد جماعة داعش ، سواء بحجة حماية الأقليات ، أو مواجهة أخطار محتملة ، وبشكل لا يدعمه أي نص حالي في القانون الدولي .

قد لا تكون هناك غضاضة  في أن تتغير قواعد القانون الدولي لمواجهة ظواهر مستحدثة في النظام الدولي ، فحين تزايدت ظاهرة إختطاف الطائرات المدنية وإحتجاز الرهائن ، توصل المجتمع الدولي إلي إتفاقات منظمة لمواجهة هذه الظاهرة ، وحين نشأت الحاجة إلي نظام قضائي لمواجهة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ، توصل المجتمع الدولي عبر إتفاق روما إلي إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ، وكذلك كان الحال مع قضايا البيئة والتنمية..إلخ 

الشاهد أن ذلك التطور كان يتم عبر وسيلتين من وسائل تعديل أو خلق القاعدة الجديدة ، وهما : إما عرف دولي مستقر ومتواتر لمدة طويلة من الزمن ، وإما عمل فقهي سواء من خلال لجنة القانون الدولي أو المؤتمرات الدبلوماسية لإبرام إتفاقيات جديدة تنظم ظاهرة من الظواهر .

الجديد في هذا الموضوع هو صلاحيات دولة أو بعض دول ليس فقط في خلق وتعديل القواعد القانونية ، وإنما أيضاً بالتفسير والتنفيذ ، ثم وبفرض أن تلك القواعد الجديدة قد صارت عالمية القبول ، فهل يعني ذلك أنها عالمية التطبيق ؟ ، بمعني هل يجوز لأي دولة أن تشن الضربات الإجهاضية بناءاً علي تصور أو إفتراض أو حتي حقيقة بأن هناك نية موجودة لدي دولة أخري تشير إلي أنها  قد تقوم – أو تقوم - بأعمال عدائية ضدها ؟. 

ثم ما هو التعريف القانوني المحكم لما نطلق عليه إسم "الحرب الإجهاضية" ، و ماهي الأعمال العدائية التي تستوجب علي الدولة تنفيذ ضربتها الإجهاضية لتوخيها؟ ، وكل هذه الأسئلة وغيرها أسئلة هامة وحيوية في المفهوم القانوني الصحيح ، فحين حرم ميثاق الأمم المتحدة التهديد أو إستخدام القوة في العلاقات الدولية فأنه حدد بدقة الإستثناء علي هذه القاعدة العامة . 

ولذلك فأنه ولو كان من حق المجتمع الدولي إعادة النظر وصياغة وتعديل قواعد قانونية جديدة ، فأن هذه القواعد يجب علي الأقل أن تتسم بالحد الأدني الذي يجب أن يتوافر في تلك القواعد ، وإلا أصبح القانون هو اللا قانون .

نستخلص من ذلك أن القانون الدولي بوضعه القائم قد لا يوفر الأساس الكافي لتنفيذ هذا النوع من الضربات العسكرية ، مع التسليم في نفس الوقت بأن أمريكا وحلف الأطلنطي قد توسعوا في الخروج علي هذا القانون بما مثل تحد حقيقي للفقه الدولي بعد انتهاء الحرب الباردة ، ورغم أن البعض يقلل من أهمية هذا القانون في العلاقات الدولية ، إلا أن التاريخ يحدثنا بأن المآسي التي شهدتها البشرية لم تكن فقط نتيجة لإختلال ميزان العدل ، وإنما لإحتقار هذا الميزان وعدم إعتباره في العلاقات بين المجتمعات والشعوب. 

فعلي سبيل المثال الأقرب للأذهان يكفي متابعة سلوك إسرائيل في المنطقة العربية أو تصرفات الدول العظمي بشكل عام ، فسوف نجد أن القانون الدولي في نسخته المعدلة عبارة عن قانون مخصخص ، تخصخصه كل دولة علي مزاجها وتضع فيه من القواعد ما يتماشي فقط مع قدراتها ومصالحها بغض النظر عن تناقض ذلك مع مصالح المجتمع الدولي ، وهو يشبه وضع العالم قبل الحرب العالمية الأولي والحرب العالمية الثانية. 

وبهذا المفهوم يمكن أن نحدد بدون أي جهد في التحليل الدول التي يمكنها إستخدام ما يسمي " الضربات الإجهاضية "، فهي تلك الدول التي لديها القوة الشاملة التي تتيح لها انتهاك القانون الدولي دون أن تخشي أي عقاب ، ولكنها في نفس الوقت تهدم النظام القانوني الدولي خروجاً علي إجماع النظام الدولي بأكمله ، وذلك لا يستدعي في مواجهته جهد فقهاء القانون الدولي فقط وإنما بلورة إرادة سياسية دولية جماعية لإنقاذ العالم قبل فوات الأوان ، ولا أظن أن مصر ترغب أو تقدر علي مخالفة هذا القانون ، ولا أظن أن عاقلاً يمكنه أن يوصي بذلك ..

تعليقات