فى الذكرى السنوية لثورة يوليو، علينا ان نتوجه إلى جمال عبد الناصر بخالص الشكر والتقدير على ما حققه خلال مدة حكمه التى لا تتجاوز 18 عاما، وكذلك على الدروس الثمينة التى تعلمناها من الهزائم والعثرات وبعض الثغرات الجسيمة والخطيرة فى النظام الذى قام بتأسيسه، حتى نتجنب تكرارها فى المستقبل:
فلنشكره اولا:
على تحقيق الاستقلال وتحرير مصر من احتلال بريطانى دام ٧٤ عاما، وعلى تأميم قناة السويس وتمصير البنوك والشركات والمصالح الاقتصادية الاجنبية الاستعمارية.
على انحيازه الى فقراء الأمة فى كل مناحى الحياة الاقتصادية والصناعية والزراعية والتعليمية والسكنية والعلاجية.
على تحرير ثروات البلاد ومقدراتها من سيطرة كبار ملاك الاراضى الزراعية وكبار الراسمالين واحتكار الشركات والبنوك الاجنبية.
على المشروعات الكبرى التى كان على راسها بناء السد العالى رغم كل الضغوط والعقبات الخارجية، وعلى تأسيس القطاع العام ومئات المصانع والصناعات الوطنية وتعيين ملايين العمال والموظفين.
على احياء الوعى الشعبى المصرى بانتمائنا الوطنى والقومى وهويتنا العربية، وبعودة مصر الى دورها التاريخى منذ عصر الحروب الصليبية وما قبلها، الى مكانتها فى القلب من الامة وعلى راس قيادتها فى مواجهة الغزوات والمخاطر الخارجية.
نشكره الف شكر على تعميق العداء الى الكيان الصهيونى وعدم الاعتراف بشرعية (اسرائيل) ولا الصلح او التفاوض معها حتى فى احلك ظروف الهزيمة.
على عدم استسلامه بعد هزيمة 1967، وعلى شروعه الفورى فى اعادة بناء القوات المسلحة والاشتباك مع العدو فى حرب الاستنزاف، مما كان له دورا كبيرا فى الاعداد لحرب 1973.
على دوره فى دعم فلسطين وقضيتها وتبنيه لحركات المقاومة ومساندته لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية.
على عدم الاكتفاء بتحرير مصر من الاحتلال البريطانى بل الاشتباك بكل قوة مع اى احتلال اجنيى آخر لاى قطر عربى وتقديم الدعم لثورات التحرر وحركات المقاومة بالمال والسلاح والمساندة السياسية والدولية.
على احتفاظه بارادة مصر مستقلة عن الدول الكبرى شرقا وغربا، وقيامه بدور قيادى مع زعماء مثل نهرو وتيتو فى بناء وتأسيس منظمات دولية ترفض الانحياز والتبعية لاى من القوتين العظمتين.
على فضله الكبير فى وجود اجيال متعاقبة من انصاره وتلاميذه من الشباب المصرى والعربى المتمسك بعروبته المناهض للولايات المتحدة ولاسرائيل والمناضل من اجل وحدة الامة ولو بعد حين
وهكذا
لكننا من ناحية أخرى ندين للتجربة بالعرفان، لما تعلمناه من دروس ثمينة من اخطائها الجسيمة وهزائمها القاسية ومأساة الارتداد والانقلاب عليها وعلى كل ما دعت اليه ونادت به:
فلقد تعلمنا من هزيمة 1967 القاسية والتى لا نزال نسدد فواتيرها حتى اليوم، ان الجيوش لا يجب ان تتورط فى الصراعات السياسية ولا يجب ان تتحول الى مراكز قوى فوق الشعوب ولا ان تكون بمنأى عن المراقبة والمسائلة والحساب من المؤسسات البرلمانية والقضائية والاعلامية والسياسية والشعبية.
تعلمنا كثيرا من ردة نائبه ورئيس الدولة من بعده، محمد انور السادات؛ هذه الردة التى اسقطت مصر فى التبعية للولايات المتحدة بعد حرب 1973، وعقدت اتفاقيات كامب ديفيد مع العدو الصهيونى واضعفت مصر والامة العربية وسلمت الاقتصاد المصرى للسوق العالمى ولمؤسسات الاقراض الدولى وللشركات متعددة الجنسية، وسلمت ثروات البلاد الى حفنة من الراسماليين ورجال الاعمال..الخ،
تعلمنا منها اخطر درس، وهو ان النظام الذى اسسه عبد الناصر كان مخترقا من داخله حتى النخاع، وانه لم يكن قادرا على حماية نفسه ومنجزاته وانحيازاته وخطه الوطنى ومكاسب ومصالح شعبه بعد رحيل عبد الناصر، فلقد كان قائما على وجود رجل واحد، وبمجرد رحيله سقط كل شئ بسهولة متناهية وبدون مقاومة تذكر خلال سنوات قليلة. تعلمنا أن الرهان يجب أن يقوم على الشعوب وقواها الوطنية قبل ان يقوم على الزعماء والقادة.
تعلمناه درسا هاما من تجربته الاقتصادية وهو ان العدالة الاجتماعية او الاشتراكية لا يمكن ان تبنى كما حدث بدون اشتراكيين وكوادر من الناس منحازة الى مصالحها، ولا يمكن ان تبنى وتستمر تحت قيادة رجال الاعمال وكبار الراسماليين لانهم فى اول فرصة سيقومون بالانقضاض والارتداد عليها ليعيدوا نهب واسترداد ما تم مصادرته من اموالهم وثرواتهم وشركاتهم وسيقومون باختراق القطاع العام وافساده وشراء كبار قياداته وخصخصته وشراءه بابخس الاثمان وتصفية الصناعات الوطنية لحساب المنتجات اجنبية التى اخذوا توكيلاتها، وسيقودون خطة اغراق مصر فى التبعية الاقتصادية واخضاعها لرؤوس الاموال الاجنبية وضرب الاقتصاد الوطنى.
تعلمنا من واقع النظام السياسى التى اسسه عبد الناصر، الخطأ الجسيم فى تأميم الحياة السياسية وادارة البلاد بتنظيم او حزب وحيد من صناعة السلطة وتابع وموالى لها، لانه فى هذه الحالة سيكون مرتعا لأسوأ العناصر الانتهازية فى البلاد، رجال كل العصور وكل الانظمة وكل الحكام، ليس لهم مبدأ او عقيدة، يبيعون الوطن والشعب بحفنة جنيهات.
تعلمنا كثيرا من مأساة تزوير الانتخابات والاستفتاءات ونسب الـ 99% حتى لو كان نجاح عبد الناصر مضمونا فى اى انتخابات رئاسية، ولا نزال ندفع أثمانا فادحة لها حتى يومنا هذا.
تعلمنا خطأ حل الاحزاب، وعلى الأخص الوطنية منها، وحصار عناصر المعارضة واعتقالهم والزج بهم فى السجون والمعتقلات، وخطأ مواجهة الافكار والمفكرين والتيارات الفكرية، بالاجهزة الامنية التى تضخمت وامتد نفوذها الى كل مؤسسات الدولة، واصبحت هى التى تدير وتخطط وتنظم الحياة السياسية والبرلمانية فى مصر، وتحدد من الذى يشارك فيها ومن الممنوع من شرعيتها.
تعلمنا خطأ الرأى الواحد واعلام الدولة وتأميم الصحف والصحافة والصحفيين وكل منابر الاعلام، وكيف أدت الى تمرير أبشع الجرائم الوطنية فى حق البلاد والعباد، بدون أى قدرة على النقد او الرد او المحاسبة او التعقيب أو التنبيه.
حتى فى تجربة الوحدة مع سوريا التى كانت “أمل الأمة” ولم تستمر سوى ثلاث سنوات 1958 -1961، فلقد تعلمنا منها ان الوحدة لا يمكن ان تأتى من أعلى، ولا يمكن ان تكون وحدة بدون وحدويين وقوميين حقيقيين، ولا يمكن ان يكتب لها النجاح لو كان القائمين عليها هم اجهزة الامن والمخابرات فى كل دولة، لان ولائهم لدولهم قبل ان يكون للوحدة. بينما الوحدة بين دولتين أو أكثر لا تعنى فى النهاية سوى الغاء كل منهما لصالح الدولة الجديدة الوليدة
خلاصة السطور السابقة فى كلمات قليلة اننا قد تعلمنا من ثورة يوليو 1952 – 1973، ان الثورات لا يمكن ان تقوم بالتنظيمات السلطوية الفوقية وبالموظفين والاتباع والاجهزة الامنية والعناصر المنافقة والانتهازية ورجال الأعمال، بل لابد ان تقوم وتأتى وتحكم بكوادرها فى حماية الملايين من جماهير شعبها، وفقا لرؤية منهجية علمية وبرنامج عمل وطنى وتحالف عريض وواسع من التيارات والقوى الوطنية المناهضة للاستعمار والصهيونية المنحازة للشعوب الساعية الى سد احتياجاتها المعيشية المؤمنة بالمشاركة والحرية والديمقراطية.
فى نهاية هذه السطور اعود واقول انه رغم كل شئ الا ان تقديرنا لجمال عبد الناصر يعلو ويزداد كلما قمنا بالمقارنة بين خطه الوطنى القومى التحررى المنحاز الى الفقراء، وبين ما آلت اليه الأحوال فى مصر وباقى اقطار الأمة فى السنوات الاخيرة، من تبعية وتطبيع وافقار واستبداد.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق