أحمد مروان يكتب : الخال الذي صنع النجوم .. وغاب "ورا الشبابيك"


أنا بعت الدموع والعمر

طرحت جنايني في الربيع الصبر

وقلت أنا عاشق..

سقوني كتير المر..

ورا الشبابيك

دي عينيك شبابيك

والدنيا كلها شبابيك

بهذه الكلمات التي تغنى بها المطرب الكبير محمد منير، وكتبها المؤلف المبدع مجدي نجيب، وقام بتلحينها الخال أحمد منيب، نستطيع أن نبدأ قصتنا مع هذا الخال الراحل، الذي عاش دنياه "ورا الشبابيك"، المبدع صاحب البصمة على أجيال من بعده، والذي صنع النجوم، وفرض الفن النوبي الأصيل بعد أن حدَّثه موسيقيًا على الساحة الفنية المصرية، ليعتمر البيوت، وتألفه الأذان، ونشعر نحن بوهج الجنوب اللافح فنيًا، الضارب في جذورنا، وتطيب نفوسنا لعبقه وشجونه.

في 4 يناير 1926 ولد الخال أحمد منيب، وهو الملحن والمطرب النوبي الأصل، حيث الجنوب المصري، بلاد الذهب، الغني بتراثه، بأحزانه وشجونه، والذي عانى لفترات طويلة من النسيان والتهميش.

النوبة المصرية، كانت تعرف آلة موسيقية تراثية، معروفة منذ عهد الفراعنة، تسمى "الطنبور"، وهي آلة وترية، فكان هنا دور الملحن الشاب، المتطلع للحداثة، بجانب الإحتفاظ بأصالة الجنوب، فعرف العود، وأدخله في الحانه، وفرضه على الساحة الفنية النوبية، وأعاد توزيع أغاني التراث النوبي بنكهة أحمد منيب، التي كانت أغلبها كلمات تراثية تُغنى في الأفراح والمناسبات المختلفة، فصنع منها لحنًا وطرب وغناء.

ومع بزوغ موهبته، أنضم إلى فرقة زكريا الحجاوي، واستمر لفترة معها، جاب معها أرجاء المحروسة كلها، فامتلك ناصية الثقافة الفنية، واستطاع أن يمزج ثقافاته وموروثاته الفنية بما رآه وسمعه.

عقب ثورة يوليو 1952 أرسل هو وصديقه الشاعر النوبي عبد الفتاح والي طلبًا إلى الرئيس جمال عبد الناصر، يطالبون فيه بمساحة أكبر للفن النوبي عبر أثير الإذاعة المصرية، وبالفعل تم لهم ما أرادوا، ولكن لظروف المرحلة وقتها، وسيطرة أباطرة الغناء الشرقي وقتها، أم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب، على الساحة الفنية، حالت دون انتشار الفن النوبي بالشكل الذي كانوا يرجوه.

في منتصف سبعينيات القرن الماضي، كان هناك شاب أسمر نحيل، ترك موطنه الأصلي بعد أن أغرقته مياه بحيرة ناصر، وأتى إلى القاهرة، ليدرس بكلية الفنون التطبيقية، ويتعرف على "زكي مراد" وهو أحد أعلام النوبة، وينبهر بملكات صوته الكبيرة، ويوصي صديقه الشاعر عبد الرحيم منصور بالاستماع إليه وإكتشافه، وبالفعل استمع إليه وأخذه إلى الخال أحمد منيب ليتعرف على الشاب الأسمر النحيل محمد أبا زيد جبريل متولي (محمد منير) ويُعجب كثيرًا بصوته، ومنذ وقتها أخذ على عاتقه تعليمه وتدريبه، واصطحبه معه في كل جلساته الفنية الطربية، وقام كما يقولون "بتفصيل" الحانه النوبية على حنجرة منير، ثم استعان معه بصديقه الملحن والموزع الشاب وقتها "هاني شنودة" الذي كان يعتمد لون وطريقة جديدة في التلحين والأداء، وصانع ثورة الأورج الكهربائي في اللحن الشرقي المصري، بجانب الموزع المصري صاحب الجاز الإيقاعي "يحيى خليل"، وقاما معًا بصنع أولى البومات الشاب الأسمر النحيل محمد منير وكان عنوانه "علموني عينيكي" .. وياللعجب لم ينجح الألبوم وقتها، بالرغم من كونه أحد الأيقونات الخالدة لمحمد منير فيما بعد، ويمكن ده له أسبابه وقتها.

وبالرغم من ذلك لم يتخل الخال منيب عن تلميذه الشاب منير، وصنع معه البوم آخر، كان عنوانه "بنتولد"، والذي فور صدوره حقق مبيعات مذهلة، وبدأت منذ وقتها النجومية الحقيقية لمحمد منير. طبعًا كان التعاون بين الخال منيب، والموسيقار الكبير هاني شنودة، والشاعر عبد الرحيم منصور بالإشتراك مع الشاعر الغنائي مجدي نجيب، والكبير سيد حجاب.

ثم يأتي بعدها درة تاج أعمالهم سويًا، البوم "شبابيك" الذي حطم كل التوقعات، وصنع الصدارة الفنية لفريق العمل هذا، وتربع منير على عرش الغناء في المحروسة، وأصبحت أغاني هذا الألبوم كأهازيج الميلاد والموت لكل محبي منير، من منا لا يعرف (الليلة يا سمرا، شجر الليمون، المدينة و شبابيك .....). ومن ثم توالت الأعمال والنجاحات، لتُصنع الأسطورة الفنية الكبيرة "منيب ومنير".

صنع الخال منيب 45 لحنًا لمحمد منير وحده، من مجموع 85 لحن صنعها في حياته، حملت في طياتها كل شجون وأحلام أبناء الجنوب، والتي صنعتها سنوات من النسيان والتهميش، وغلفها عبق التراث، وأهازيج اللهجة النوبية المنسية، التي لا يدركها سوى أهلها.

هذه الأعمال صنعت النجومية الكبيرة للمطرب محمد منير، ووضعته في مصاف المطربين الأوائل، وهي أعمال يحفظها كلها محبي منير، ويعلمها من يتابعون مسيرته.

وعندما تم صُنع وثائقي عن مسيرة الخال منيب، سألوا محمد منير عن طبيعة علاقته بأحمد منيب؟ فكان جوابه: "وفينك؟، أنا من غيرك، أنا مش عاقل ولامجنون" وهو المقطع الذي غنَّاه في أغنيته الشهيرة "شجر الليمون" .. ليدل بكل شجن عن طبيعة العلاقة الروحية بينهم. 

ويضيف منير أن أحمد منيب كان بيدور عن صوت يعبر عن الحانه، وعن طبيعة النوبة، بوهجهه الفني اللافح، وطيبها، أحزانها وشجونها، فوجد ضالته في منير، ووجد محمد منير ضالته في الحان منيب التي رسمت هالته الفنية، وشخصيته الموسيقية التي ظلت مصاحبة له حتى وقتنا هذا.

محمد منير غنى للخال منيب في 1978 (البوم علموني عينيكي) ونجح، وحتى بعد وفاته غنى له لحن في عام 2007 (نيجيري بيه) ونجح أيضًا!

الخال أحمد منيب قام بعمل 7 البومات غنائية، غنى فيها بصوته 51 لحن من الحانه، كما قام بالتلحين لمطربين آخرين أصبحوا نجومًا فيما بعد، فقد لحن لأيقونة جيل التمانينات وطاقة الإبداع حميد الشاعري، والمطرب الناشيء وقتها إيهاب توفيق، وصنع له أغنيته الأشهر والتي كانت عنوان البومه الأول "أكمني" .. وقام بالتلحين لـ (منى عبد الغني، حنان، عمرو دياب، فارس، محمد فؤاد، وحتى هشام عباس).

أما تعاونه مع المطرب علاء عبد الخالق فكان مميزًا جدًا، حيث حملت الأغاني الحانه النوبية الشجية المميزة، بجانب التوزيع البديع لحميد الشاعري، فصنعوا سويًا أغاني مثل (الحب له صاحب، بناديلك وأغنية الحب بحر).

عاش الخال أحمد منيب مع كل هذا مكتفيًا بتجويد أعماله، لا يبحث كثيرًا عن الأضواء والشهرة، صنع نجومًا كبارًا، أوصل بفنه وجهده وعزمه المطرب محمد منير إلى إعتلاء عرش الغناء، وأطلق عليه محبيه لقب "الكينج" .. وأوصل الناشئين منهم إلى بداية طريق النجومية، كحميد الشاعري، وإيهاب توفيق وغيرهم .. وظل هو وراء "شبابيكه" ممسكًا بعوده الخشبي البسيط، الذي وحَّد أحلام هؤلاء جميعًا.

في 4 فبراير عام 1991 توفي الخال أحمد منيب، عن عمر يناهز 65 عام، الخال الذي صنع النجوم، وظل بعيدًا عن الإعلام، لا يتذكره أو يذكره، كثيرًا أو قليلاً، بالرغم من بصماته الوضَّاءة.

تعليقات