الممثلة البريطانية القديرة فانيسا رديجريف، التي تجاوزت الثمانين من عمرها، لا تزال رمزًا حيًا للصوت الحر في وجه الظلم والاستعمار والإبادة. لم تُثنها السنون، ولم تنكفئ على ماضيها الفني الحافل لتستريح كما يفعل غيرها، بل لا تزال ترفع صوتها من قلب أوروبا ضد جرائم الحرب والمجازر المستمرة والتجويع في غزة، وضد التحالف الغربي الصهيوني الذي يغلف القتل الجماعي والابادة الممنهجة بشعارات "الحرب على الإرهاب" و"الدفاع عن النفس".
وعلى الرغم من انتمائها إلى الطبقة الأرستقراطية البريطانية، اختارت فانيسا الانحياز للضعفاء والمظلومين منذ وقت مبكر من حياتها. لم تكتفِ بالتمثيل أو الأدوار الإنسانية على الشاشة، بل جعلت من مواقفها السياسية والإنسانية جزءًا لا يتجزأ من شخصيتها ومسيرتها، وهو ما كلّفها الكثير.
فقد تم ترشيح رديجريف لجوائز الأوسكار أكثر من ست مرات، وفازت بها مرة واحدة عام 1978 كأفضل ممثلة مساعدة عن دورها في فيلم Julia عام 1977، إلا أن فوزها هذا لم يمر مرور الكرام. إذ واجهت فانيسا حملة شعواء قادها اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وأوروبا بسبب مشاركتها في فيلم وثائقي يدعم حقوق الفلسطينيين ،بل وحتى بسبب مواقفها الجريئة والمعلنة ضد الاحتلال الإسرائيلي. وصل الأمر إلى حد تنظيم مظاهرات ضد حضورها حفل توزيع الجوائز، وصدور بيانات غاضبة من قِبل منظمات يهودية متطرفة، رافضة مجرد مشاهدتها على منصة الأوسكار.
لكن رديجريف لم تتراجع. بل ألقت خطابًا ناريًا في الحفل هاجمت فيه "حفنة السفاحين الصهاينة ومن يدعمهم"، مؤكدة أن إرادتها لن تُكسر، وأن الفن لا يمكن أن يُستخدم لتبرير الإبادة أو تبرئة الاحتلال.
لم تكن فلسطين القضية الوحيدة التي دفعت هذه الفنانة إلى المواجهة. بل كانت ناشطة صلبة ضد الحرب الأمريكية على فيتنام، ومن أوائل المعارضين للانتشار النووي في العالم، كما لعبت دورًا محوريًا في الحملة الأوروبية المناهضة لغزو العراق عام 2003. وشاركت في العديد من التظاهرات المؤيدة لحقوق اللاجئين، ورفضت السياسات العنصرية البريطانية تجاه المهاجرين، ودافعت عن الحريات في وجه الحكومات الغربية نفسها.
ولأنها لا تجيد التزلف، ولأن بوصلتها كانت دائمًا في صف المظلومين لا الأقوياء، فقد تم محاصرتها فنيًا وإعلاميًا، وأُقصيت تدريجيًا من المشهد السينمائي ( نفس ما حدث للفنان محمد سلام) رغم موهبتها الفذة وشهادات النقاد حول تفرّد أدائها.
أما في العالم العربي، فقد قوبلت مواقفها النبيلة بصمت مُخجل، وسط صخب النفاق الفني والإعلامي الذي يرفع رايات الحرية فقط حين تكون "حرية رقص وابتذال"، ويُغدق الدعم على رموز التفاهة والانحلال وما يسمى بالترفيه،ويتجاهل كل من يرفع صوته لأجل الحق والحرية والعدل والكرامة،
تحية بحجم التاريخ لفانيسا رديجريف التى لم تُولد في غزة ولا رام الله، ولم تعِش في مخيمات الشتات، لكنها فهمت معنى القهر، وانحازت إلى شعب يُذبح في العلن، فصارت ضميرًا عالميًا يصرخ حيث سكت الملايين.
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق