حسن مدبولي يكتب : المعادلة المجرمة !؟


في لبنان، ليس السلاح مجرد أداة قتال، بل عقدة الهوية وأداة الصراع على معنى الوطن نفسه. ومنذ ربع قرن على تحرير الجنوب، يعيش البلد أسير معادلة مصيرية:  مقاومة أجبرت إسرائيل على الانسحاب، في مواجهة إرث ميليشيات لبنانية تحالفت مع الاحتلال ذاته، وبينهما دولة هشة، تابعة، تتقن فن الهروب من سؤال السيادة الحاسم: لمن تكون الكلمة الأخيرة؟ للخارج وعملائه، أم للمقاومة الوطنية التي دفعت الدماء لتحرير الأرض؟

في مايو 2000، حقق حزب الله ما عجزت عنه جيوش عربية بكامل عتادها، وعلى رأسها الجيش اللبناني، حين أجبر الحزب إسرائيل على الانسحاب من معظم الجنوب بعد 18 عامًا من القتال الضاري. كان ذلك انتصارًا غير مسبوق، صاغ شرعية الحزب في لبنان والعالم العربي، وكرّسه رأس الحربة في مواجهة المشروع الصهيوني. وبقي السلاح بيد المقاومة، ليس ترفًا ولا استعراض قوة، بل لأن الاحتلال ظل جاثمًا على مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وبلدة الغجر، ولأن الردع أمام العدو لم يكن خيارًا، بل ضرورة.

لكن بين من يرى هذا السلاح صمام أمان للبنان، ومن يراه حجر عثرة أمام "سيادة الدولة"، تفجّر الانقسام، خاصة مع انسحاب الجيش السوري عام 2005. ثم جاءت مشاركة الحزب في الحرب السورية بعد 2011، ففتحت شهية خصومه على اتهامه بأنه أداة إيرانية في صراع إقليمي، لا مجرد مقاومة ضد إسرائيل. ومع دعمه لأهل غزة في ملحمة 2023-2024، وتصديه المباشر للعدوان، اشتعلت الضغوط الدولية والمحلية.

وجدت الدولة اللبنانية في ذلك ذريعة لمحاولة تصفية الحساب مع الحزب، والتخلص من سلاحه نهائيًا، ولكن كل هذا الجدل المسموم لم يستطع إخفاء حقيقة فاضحة وهى أن أبرز من يرفعون اليوم لواء "نزع السلاح" هم أنفسهم من لوّثوا تاريخ لبنان بالتبعية والخيانة، فحزب الكتائب اللبنانية، المولود عام 1936 على يد بيار الجميّل، متأثرًا بالنماذج الفاشية الأوروبية، انخرط منذ اندلاع الحرب الأهلية في 1975 في قتال الفصائل الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية، وأسس جناحه العسكري "القوات اللبنانية" بقيادة بشير الجميّل عام 1976. ومنذ منتصف السبعينيات، فتحت هذه الميليشيات قنواتها السرية مع إسرائيل عبر الموساد، لتتلقى السلاح والتدريب، في تحالف علني ضد الفلسطينيين وحلفائهم من المسلمين اللبنانيين.

وفي اجتياح 1982، لعب بشير الجميّل دور الوسيط الخائن، مسهّلًا دخول دبابات الاحتلال إلى بيروت الغربية، مقابل دعم تل أبيب لترشيحه لرئاسة الجمهورية.لكن اغتياله بعد أسابيع لم يُنهِ الخيانة، بل مهّد لأحد أفظع فصولها: مجزرة صبرا وشاتيلا، التي ارتكبتها القوات اللبنانية بقيادة إيلي حبيقة وسمير جعجع، تحت حماية الجيش الإسرائيلي.

واليوم، حين يطالب هؤلاء بنزع سلاح المقاومة وتسليمه إلى جيش يسيطرون هم وطائفتهم عليه سياسيًا، فإنهم لا يهدفون إلى حماية "سيادة الدولة"، بل إلى إعادة لبنان إلى زمن الوصاية الإسرائيلية الكامل، زمن كانت فيه البنادق موجهة إلى صدور المقاومين، لا إلى صدر العدو.

تعليقات