محمد حماد يكتب : في "أربعينه" اشتعلت المعركة حول عبد الناصر (1)


الأسبوع الأخير من سبتمبر من كل عام يجمع بين مناسبتين لرجلين ارتبط اسماهما بالتاريخ المصري الحديث.

في الثامن والعشرين منه الذكرى الخامسة والخمسين لرحيل رجل المقادير الذي شاء قدره أن يضعه على رأس جيل من الوطنيين المصريين الذين آمنوا بعروبتهم، وقادوا عملية التحولات الكبرى في السياسة والمجتمع والمحيط الإقليمي، 

وكان لها أثرها وتأثرها بما جرى على الصعيد الدولي في واحدة من أخصب فترات التاريخ الإنساني في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى مطالع العالم الجديد الذي تأسس على نتائج الحرب الباردة التي اشتعلت جمرتها في ظل نظام عالمي ثنائي القطبية على قمة العالم.

وفي الثالث والعشرين منه ذكرى ميلاد الكاتب الصحفي المصري الأهم في التاريخ الحديث محمد حسنين هيكل (23 سبتمبر سنة 1923) الذي صنعته مقاديره -هو أيضًا- لكي يكون شاهدًا مطلعًا على ما جرى في خضم هذه التحولات الكبرى، وداعية للأيديولوجيا (الأفكار، والتوجهات، والسياسات) التي قادت هذه التحولات، وصار هو لسانها الفصيح، وقلمها البليغ.

وتشاء المقادير أن تجمع بين الرجلين، في تلك اللحظة من التاريخ، وربطت بينهما، فلا يكاد يذكر عبد الناصر إلا متبوعًا باسم هيكل، ولا يمكن ذكر هيكل بغير الحديث عن علاقته بعبد الناصر، الأول من موقع الزعيم والقائد والرئيس، والثاني من موقع الانتماء لمشروع الزعيم، والدعاية له، والحرص على تأريخ دوره ورسم صورته الحقيقية كما انطبعت على وجه التاريخ، وهو الدور الذي تمناه عبد الناصر وتوقعه منه، وأداه هيكل بحنكة واقتدار.

بعد الرحيل المفاجئ لجمال عبد الناصر (رحل عن 52 عامًا)، وفي الشهور الأولى من عمر جمهورية أنور السادات كان عبد الناصر حاضرًا بأكثر مما تحتمل الأمور، 

وكان أكثر حضورًا في قلب عملية ترتيب النفوذ عند القمة، كان ظله -في تلك الأثناء- أوضح من كل الصور التي تحيط بقمة السلطة، وجرى استخدام اسمه على أوسع نطاق من الجميع، يستميله كلُ فريق إلى صفه، ويشده كل طرف إلى موقفه.

كانوا جميعًا يلعبون اللعبة نفسها، وربما للأهداف نفسها، كل من موقعه، وحسب ما في يده من أوراق، 

كلهم كانوا يحاولون إعادة ترتيب النفوذ عند قمة السلطة ترتيبًا يعطيه نفوذًا أكبر، ويقلص في الوقت نفسه من قوة نفوذ الآخرين.

في ذكرى “الأربعين” لرحيل عبد الناصر، ومن شخص لم يتوقعه أحد، نشر في مصر عنوان كبير لمقال افتتاحي في صدر الصفحة الأولى لملحق خاص ملون ظهر في المناسبة مع جريدة “الأهرام”، 

كان العنوان الصادم يقول: “عبد الناصر ليس أسطورة”، وكان المقال يحمل توقيع محمد حسنين هيكل.

العنوان -قبل القراءة المتفحصة- أربك الجميع في مصر، المواطنين، قبل المسئولين، إلا من كان على اطلاع على ما يدور خلف “الكواليس”.

أربعون يوما فقط على غياب الرجل الذي انتحبت مصر والشعب العربي كله في وداعه، خرجت الملايين وراء جثمانه لكي تضعه في مكانه لا ينازعه فيها أحد، ثم وبهذه السرعة يقرأ الناس أنه لم يكن أسطورة، وبتوقيع الكاتب الذي التصق به على مدار 18 سنة.

وللحق فإن هيكل -شأنه شأن الآخرين الذين يلعبون اللعبة نفسها- لم يكن هدفه الحديث عن عبد الناصر بقدر ما كان حديثه عما يحدث بعده، ولكنه انغمس في عملية إحضاره في شأن كان قد غيبه الموت عنه.

لم يكن هيكل يجيب عن سؤال: هل عبد الناصر أسطورة؟، 

فالسؤال لم يكن مطروحا، ولا كان هناك من يقول بذلك، ولكنه كان يجيب عن سؤال آخر مطروح، وربما بشدة في أروقة الحكم، وفي خضم الصراع على عبد الناصر ميتًا وسط الدائرة نفسها التي كانت تتصارع حوله حيًا. 

سؤال التركة، أو بالأحرى سؤال الورثة، السؤال في جوهره يتناول قضية من الأحق بها من بين القائمين على الأمر.

ولذلك راح يؤكد على: “إنه ليس من حق أحد بيننا أن تراوده على نحو أو آخر، بقصد أو بغير قصد، فكرة تحويل جمال عبد الناصر إلى أسطورة”.!

وقال: “إن الحب الزائد له، والحزن الزائد عليه -وكلاهما في موضعه- يمكن لهما أن يدفعا بالذكرى دون أن نشعر إلى صلب الأساطير. كما إن بعضنا قد يتصور لأسباب شتى أن ذلك متطلب أو مطلوب، والحقيقة أن هذا كله مهما كانت دوافعه يضع جمال عبد الناصر في غير مكانه الصحيح”.

وظل المقال يتدافع باتجاه صلب الموضوع فقال: “إن جمال عبد الناصر ليس له خلفاء ولا صحابة، يتقدمون باسمه أو يفسرون نيابة عنه،

 لقد كان له زملاء وأصدقاء، وقيمة ما تعلموه عنه، مرهونة بما يظهر من تصرفاتهم، على أن تكون محسوبة عليهم، دون أن يرتد حسابها عليه”.

ثم تقدم أكثر إلى هدفه من المقال فقال: 

"يستطيع زملاء وأصدقاء جمال عبد الناصر أن يرووا عنه، ولكن ذلك كله يدخل من باب التاريخ، دون أن يكون جوازا إلى باب المستقبل"

وقال: إن تأثير عبد الناصر فيمن لا يعرفهم شخصيا، أعمق منه فيمن عرفهم شخصيا" 

وحذر من تحويل التاريخ إلى فن التحكم في المستقبل، لأن ذلك يحمل “شبهة تحويل ذكرى عبد الناصر إلى كهنوت، والكهنوت له كهنة، والكهنة لهم حجاب، والحجاب لهم حراس، والحراس وراء أسوار، والشعب خارج الأسوار ينتظر الوحي"

ثم وكأنه يطالب بالتغيير عند قمة السلطة أكد هيكل: “إن طريق جمال عبد الناصر لا يعنى إبقاء كل شيء كما كان عند اللحظة التي تركه هو فيها، 

ثم تحدث باسم الغائب فقال: لو كان جمال عبد الناصر لم يرحل لما بقي كل شيء عند تلك اللحظة.

وأكد هيكل من جديد على "أننا نسيء لجمال عبد الناصر إساءة بالغة إذا نحن حاولنا أن نستخدم تراثه بدلا من أن نخدم هذا التراث"

وشدد على أن “ذكرى عبد الناصر لا يجب أن تتحول إلى تراث أو إرث نعيش عليه”.

 واشتعلت أولى المعارك حول عبد الناصر بين رجاله والمحسوبين عليه.

تعليقات