بيروت ورحلة قصيرة جدا" لكنها دالة" جدا" نعم يومان ونصف فقط فى بيروت أسباب الرحلة لا قومية ولا نضالية بل فنية أرادونى أن أتحدث فى حلقة عن الجماليات فى الصور الشعرية لقصيدة أمير الشعراء أحمد شوقى ( مضناك جفاه مرقده ) وكيف أبدع فى لحنها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب موعد التسجيل أمس الأربعاء مكان التسجيل ستوديو فى بيروت
إذا ذهبت لبيروت ورغما عنى وجدتنى أسير فى شوارع ضاحية الجنوب حيث كل شئ حزين وكل شئ فقير - وكل شئ ضيق - حتى وجوه الناس تزدحم بالمشاعر الحزينة اليائسة المتكالبة والمتكدسة على قلوب وعقول لم تؤهل لحملها فضلا عن العيش بها- المكان فقير تزدحم فيه كل الأشياء على نحو تعبوى لا فنى ولا هندسي -نعم تزدحم البنايات الرديئة والسيارات والموتوسيكلات - آه من المدن التى هى من مخلفات الحروب-
تظل رائحة الموت عالقة" بكل عناصرها - تشم رائحة الموت فى أنفاس المكان وفى ملامح الجدران وفى الوجوه المجهدة ، وفى ابتسامات باهتة مكملة وحسب ، سألت - فأجابوا نعم كلنا يعلم أن الموت قريب وربما قادم -كلنا يعلم أن الموت يتأهب لنا ولكننا لا نأبه به ولا نهابه ولا نتأهب له فقط نراه ونميزه ونشمه ونكرهه ونبغضه نترقبه ونستهين به لا من وحى شجاعة ندعيها بل من يأس من حالنا وحال الأمة التى ننتمى إليها
ثم قالوا : يا أيها الرجل الحزين الطيب -تلك ليست قرارتنا لكنها أقدارنا ولعلك تسأل ما نسأله دائما: من ذلك الشيطان الذى شكل لبنان على نحو ما هى عليه (سنة وشيعة ودروز و مسيحيون) والعدل بين الطوائف يتشكل فى المحاصصة، والمحاصصة نفسها إعلان الفرقة وعنوان المجتمع المنقسم الذى لا يعرف فى حياته حقيقة التوحد الوطنى والإجتماعى.
تركتهم وتجولت فى شارع آخر ثم خطر لى أن أوثق أحزان المدينة فبدأت أصور الواقع من حولى بكاميرا الموبايل الخاص بى - وفجأة جرى نحوى شاب ربما تجاوز الثلاثين وهو يصرخ وينهرنى من أنت ؟ وماذا تصنع ؟ أعطنا هذا الموبايل وكعادتى فى هذه المواقف يلهمنى الله ثباتا " كاملا" وجرأة" كبيرة - نهرته قائلا ومن أنت ؟ وما الذى يعنيك من شأنى ؟ ثم قلت يا ولد أنت صغير وتتحدث لرجل مثل أبيك فأجاب بأدب : على رأسي لكن أعطنا هذا الموبايل.
وهنا ظهر اثنان آخران ومعهما مسدسات أخرجوها من حقائب صغيرة بحوزتهم فقلت بصرامة إننى أصور المدينة التى كنت أتابع أحداثها عن بعد بكل ملكاتى وكأننى أسكنها ليل نهار والحقيقة يا شباب أن كل مدن النضال هى النى تسكننى، أعجبتهم الكلمات وشعروا بصدق نبرتى ويعلم الله أن مداد صوتى دائما يأتى من دم قلبى، فسكتوا ونظروا لبعضهم ثم قال أكبرهم من وين أنت يا أستاذ ؟ قلت إننى إعلامى مصرى وقد أتيت لبيروت بالأمس فقط وكان لابد أن أزور الضاحية وأريد كذلك أن أزور قبر السيد البطل الشهيد حسن نصر الله,
قالوا تفضل واجلس معنا على هذا الكافيه وطلبوا لى القهوة وبدأوا يشرحون لى سبب موقفهم وكيف أن العديد من الخونة هم الذين تسببوا فى كارثة البيجر وتفجيره وأقسموا لى كيف كانت كل هذه الشوارع التى أسير فيها يسقط فيها مئات الشباب من الحزب، ومنهم من فقد عينيه ومنهم من فقد يده أو قدمه ومنهم من فقد حياته وكانوا يسقطون أمام أعيننا وكل ذلك من جراء الخيانة التى مكنت الصهاينة من الوصول إلى المشترك السرى لهذا الجهاز، لهذا فإنهم إذا ما وجدوا غريبا يصور المكان منعوه فورا.
جلست معهم قرابة الساعة وتبادلنا أرقام التليفونات لنكون على تواصل مستمر بإذن الله أحدهم قال لى قبل أن أغادرهم : يا أستاذ مصر بالنسبة لنا ليست دولة إنها أمة بأسرها وجميعنا ينتظر موقفها الحاسم، نظرت إليه طويلا وعميقا وكافحت دموعى قبل أن تطرحها عيونى وغادرت.
وكان موعد التسجيل بعد ساعتين لأتحدث عن قصيدة مضناك جفاه مشهده وعن لحن وآداء عبد الوهاب وذهبنا للإستوديو وبدأ التسجيل وسألنى المذيع عن الجماليات فى القصيدة وفى الأغنية فبدأت الإجابة بحماسي الشديد للفنون ذلك الحماس الذى عادة" ينسينى كل همومى وكل عذاباتى وقلت لهم : الفيلسوف الغربى الكبير شوبنهاور قالها ذات مرة : ( كل الفنون تطمح لإن تكون مثل الموسيقى)
ثم استطردت تعرفون لماذا لإن الموسيقى وطن يحج إليه مواطنوه مرات ومرات وهذا ما يتمناه ويطمح إليه أى فن آخر لذا ورغم روائع شوقى فإنه هو المحظوظ بعبد الوهاب واندمجت فى شرح رائعة شوقى وروعة عبد الوهاب وفجأة اختفى مشهدهم من أمامى وكأن الإضاءة أغلقت ووجدت أمامى هذا الشاب المناضل اللبنانى من حزب الله يكررها : يا أستاذ مصر دائما بالنسبة لنا ليست دولة بل إنها أمة، وتردد صدى كلمة أمة فى أذنى حتى كدت أصرخ بها القصة والموضوع إذن ليس شوقى وعبد الوهاب، وإنما مصر الأمة التى ينتظر الجميع موقفها الحاسم
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق