على الرغم من أن "حادثة" ميكروباص كوبري الساحل وقعت قبل 4 سنوات فقط، إلا أن البعض لا يتذكرها، بينما يرفض الكثيرون تذكرها، وهذا أمر يتعلق بعلم النفس ورفض العقل أشياء معينة.
تم تداول موضوع سقوط ميكروباص، من فوق كوبري الساحل، في نهر النيل على نطاق ضيق خلال الساعات الأخيرة من مساء يوم 9 أكتوبر 2021. وبحلول الساعات الأولى من صباح 10 أكتوبر، اتسعت مساحات الحديث عن "الحادثة" بشكل لافت، لدرجة أن وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية والفضائيات ومحطات التلفزيون الأرضية وسائقي سيارات التاكسي وركاب المواصلات العامة ورواد المقاهي، ومع طلوع ضوء النهار، كانت مصر كلها تبكي وتذرف الدموع الغالية، بينما الناس ووسائل الإعلام والسوشيال ميديا يتحدثون بشراسة وثقة ويقين حول ما سمعوه أو رأوه من تفاصيل تتعلق بحادثة اختفاء سيارة ميكروباص بها حوالي 15 راكبًا، إضافة إلى السائق، حيث حطمت سور كوبري الساحل وقفزت إلى مياه نهر النيل، واختفت تماما في لحظة واحدة.
كانت هناك سيارات على الكوبري، وكان هناك مشاة فوق الكوبري، وكان هناك أشخاص غامضون بنظارات سوداء يقرأون الصحف تحت الكوبري، وكان هناك صيادون بطول الجزء الممتد تحت الكوبري، وكان هناك أطفال شوارع تحت الكوبري، وكانت هناك كائنات غريبة بثياب أكثر غرابة وكأنها تعاطت مخدرات العالم كله تنام تحت الكوبري. لكن لا أحد رأى بالضبط سيارة الميكروباص وهي تقفز من فوق الكوبري، ولا أحد رآها وهي تسقط في مياه نهر النيل، ولا أحد يمكنه أن يحدد لونها أو عدد ركابها. وعلى الرغم من ذلك كانوا كلهم متأكدين من أنها سيارة ميكروباص بها 15 راكبا إضافة إلى السائق. بل وواثقون تماما بما تردده وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام وقنوات التلفزيون الفضائية والأرضية والناس في الشوارع بأن السيارة حطمت سور الكوبري في البداية، ثم قفزت وطارت وحلقت حتى وصلت إلى المياه واختفت في لحظة واحدة من دون حتى أن تصدر تلك البقاليل التي تصدرها عادة الأشياء التي تغرق في المياه أو الأشخاص الذين يجري تنشيط ذاكرتهم في أقسام الشرطة والسجون وأماكن التوقيف السرية.
استمر الحال لمدة 4 أيام، ظهرت خلالها أخبار كثيرة حول أسر الغارقين، وأحاديث مع أقاربهم، وحكايات من حياتهم الشخصية والأسرية.. بل وظهرت أيضا صور ومقاطع فيديو لحوارات مع زوجات وأبناء الغارقين، وأخبار عن وصول أوناش ورافعات ضخمة من ألمانيا لانتشال الميكروباص. وسرعان ما ظهرت صور ومقاطع فيديو جديدة للأوناش والرافعات وهي تعمل بحماس ومسؤولية في وسط النيل.
وكانت وسائل الإعلام مزدحمة بشكل عجيب بالروايات التي تتردد طول الوقت على لسان شهود العيان الذين سمعوا من أشخاص يثقون فيهم، أو رأوا صورا على الفيسبووك وتويتر تؤكد ما يقولونه. بينما كانت الهيئات والأجهزة الأمنية تحاول طمأنة المواطنين بأن الأوناش الضخمة والرافعات هائلة الضخامة تبحث جميعها في أعمق أعماق نهر النيل لانتشال السيارة الميكروباص التي كانت تقل 15 راكبا إضافة إلى السائق. في حين صدر بيان رسمي من وزارة الداخلية بأن كاميرات المراقبة لم ترصد أي سيارة ميكروباص، لكن كاميرا واحدة فقط استطاعت أن ترصد جسمًا أبيض اللون كان يسير على الكوبري ثم اختفى.
في أيام 11 و12 و13 أكتوبر كانت القنوات الفضائية والأرضية، والمواقع الإلكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي، تصل الليل بالنهار، لكي تبلغ الشعب بكل تفاصيل "الحادث"، وتعرض الحوارات الجديدة مع أهالي المفقودين- الغارقين، وظهرت حملات تدعو للتبرع لأطفال وزوجات وأسر المنكوبين. ثم ظهرت صور ومقاطع فيديو جديدة للأوناش والرافعات الضخمة وهي تنتشل السيارة الميكروباص التي تشُر منها المياه، في مشهد مهيب وسط حشود الناس الذين يكبرون.
في هذه الأيام، نفى قائد سيارة ملاكي وقوع أي حادث بالأساس، مُستنِدًا إلى مشاهدته لحظة اصطدام مركبة "توك توك" بالسور الحديدي في الواحدة من صباح اليوم الذي سبق الإعلان عن الحادث. أي قبل الإبلاغ عن الحادث بنحو 13 ساعة. وخرج شخص ثان برواية قريبة من الرواية السابقة أشار فيها إلى وقوع حادث تصادم بين دراجتين قبل يومين من الإبلاغ عن الحادث ما نتج عنها إصابة شخصين. وأفادت رواية ثالثة جاءت على لسان ربة منزل قالت إنها مرت بموقع الحادث في الساعة 7 صباحًا وكان هناك زجاج سيارة محطم ومنثور على الكوبري وجزء من الدعامة الجانبية قد انهار وسقط. وعلى الرغم من اختلاف هذه الروايات الثلاث، فقد أجمع أصحابها على أمر واحد وهو سقوط جزء من السور الحديدي أعلى كوبري الساحل، وأن هذا السقوط ليس وليد يوم الحادث، بل يعود إلى ساعات وربما أيام سبقت الحادث الذي لا يعرف عنه أحد أي شيء ولم يره أحد ولم يبلغ أي أحد عن أشخاص أو ميكروباصات مفقودين. أما الرواية الرابعة التي جاءت على لسان الصيادين المتواجدين أسفل الكوبري مباشرة، فقد أكدت أنهم لم يروا أي شيء قد سقط. بينما قال أحد عمال حديقة مطلة على الكوبري أن لا شيء قد سقط من أعلى الكوبري إطلاقا.
وفي يوم 14 أكتوبر 2021 فقط، تخلت وسائل الإعلام: التلفزيون الرسمي، والفضائيات، والمواقع الإخبارية الإلكترونية، عن أخبارها وحكاياتها وحواراتها وأخلت مسؤوليتها تماما، وراحت تتهم بعضها البعض بالتضليل والتزييف، ثم بدأت توجه أصابع الاتهام إلى السوشيال ميديا، متهمة إياها بأنها السبب في حالة التضليل التي جرت، وأنها هي التي اختلقت الحادث، ولم يكن أمام وسائل الإعلام إلا أن تتناول هي الأخرى الحادث وتبدأ بالتعامل معه. بينما راحت السوشيال ميديا تسخر من وسائل الإعلام، ومن الإعلام الرسمي، والفضائيات الرسمية، وتعيد حواراتها مع أهالي المفقودين، ومقاطع الفيديو التي تنتشل فيها الأوناش والرافعات الألمانية الضخمة الميكروباص الغارق.
وبحلول مساء يوم 14 أكتوبر، أعلنت وسائل الإعلام أنه لم يكن هناك لا ميكروباص ولا ركاب ولا غرقى. وحتى وقتنا هذا، لا يعرف أحد، إنسان أو طير أو حيوان أو كائنات فضائية، مصدر الخبر، ولا مصدر الصور ومقاطع الفيديو، ولا مَنْ روَّج للأخبار والتفاصيل، ولا مَنْ أمرَ بتخصيص مساحات واسعة من الأخبار والبرامج والحوارات والمتابعات الميدانية لحظة بلحظة ودقيقة بدقيقة لهذه "الحادثة" التي تحولت إلى إحدى أساطير المجتمع المصري ودخلت إلى عالمه الأسطوري من أوسع الأبواب
تعليقات
إرسال تعليق
أترك تعليق